العقد المضيّع

TT

إذا كان مستغربا أن يغير 19 انتحاريا مجرى التاريخ في يوم واحد - 11 سبتمبر (أيلول) 2001 المشؤوم - فالأكثر غرابة أن تجر هذه الحفنة من الانتحاريين الدولة الأعظم في العالم إلى حروب جانبية مع العالم الإسلامي كادت، في بعض مراحلها، أن تتحول إلى حرب مكشوفة على الإسلام.

طبيعي أن تحيي الولايات المتحدة ذكرى انقضاء عشر سنوات على اعتداءات تنظيم القاعدة في أجواء «نشوة قومية»، فالانتصار الاستراتيجي الذي حققته على «الإرهاب الدولي» يسمح بالاستنتاج بأن وضعها الأمني الداخلي بات أفضل حالا، اليوم، عما كان عليه خلال السنوات العشر الماضية، وإن كان أمنها «الخارجي» ما زال يعاني من تهديدات بعض جيوب «القاعدة» في اليمن والعراق وأفغانستان وباكستان.

هل تحجب نشوة النصر عن أعين الأميركيين ما تكبدته واشنطن من ثمن باهظ لتحقيقه، كاد في فترة ما أن يطيح بما تبقى من رصيدها السياسي في العالمين الإسلامي والعربي؟

قد تكون الكلفة البشرية والاقتصادية لعقد الحرب على الإرهاب شأنا أميركيا أكثر منه دوليا - وإن كان النظام المالي العالمي بأكمله لم يعد بمنأى عن تداعيات كلفته الاقتصادية. ولكن الشأن الدولي، وتحديدا العلاقة الأميركية بالعالمين الإسلامي والعربي، تحولت إلى الضحية الأبرز لعقد الحرب على الإرهاب.

يتفق الكثيرون على أن الصدمة النفسية العميقة التي أفرزتها اعتداءات 11 سبتمبر داخل المجتمع الأميركي دفعت إدارة جورج بوش إلى التخبط بمبادرات يصعب الدفاع عنها من موقع ديمقراطي أو حتى تبريرها دبلوماسيا. وفي مقدمتها غزو العراق وما سبقه وتلاه من «إخراج» مسرحي لتهمة امتلاك العراق أسلحة دمار شامل.

ولكن إذا كان مفهوما أن تتخذ واشنطن، في سعيها الحثيث لحماية أرض الوطن، قرارا بخوض حروب خارجية على «الإرهاب الدولي» فما لم يكن مفهوما هو إصرارها على إقران هذه الحروب بـ«رسالة» آيديولوجية هي: نشر الديمقراطية في الخارج.

استحالة فرض الديمقراطية الأميركية بالقوة على «المحتاجين» في الخارج كشفها عجزها عن أن تحقق في العراق، بعد ثماني سنوات من الاحتلال العسكري، ما أنجزه بائع متجول في تونس.

أما المفارقة الأدهى في المقاربة الأميركية «لرسالة» الديمقراطية فقد كانت ترافق - والأصح تلازم - نشر هذه الديمقراطية في الخارج مع التضييق على ديمقراطية الأميركيين في الداخل، فبعد 11 سبتمبر أصبح الأميركيون معرضين لتحقيقات «جهاز أمن قومي» تتقاطع صلاحياته، وتتضارب أيضا، مع 16 مؤسسة أمنية واستخباراتية أخرى على رأسها وكالة المخابرات المركزية. وفي مناخ تقديم الضرورات الأمنية على الحريات العامة لم يكن مستغربا أن تتنامى ممارسات الافتئات على حقوق المواطنين المدنية بدءا باعتماد «القسوة» في التحقيق مع المشتبه بأنهم إرهابيون، وانتهاء بزجهم بمعتقل في غوانتانامو لا يزال إلى اليوم دليلا فاضحا على استعداد ديمقراطية ما بعد 11/9/2001 للتأقلم مع أبشع ممارسات الأنظمة الأوتوقراطية.

أما أسوأ حالات التخبط مع عالم ما بعد 11 سبتمبر فقد كان في أسلوب تعامل واشنطن «الحذر» مع العالمين الإسلامي والعربي بشكل يوحي بأن العرب والمسلمين أجمعين باتوا يتحملون، معنويا، تبعات أفعال مجموعة سلفية متطرفة.

ورغم أن واشنطن سعت - بعد اجتياحها العراق - إلى «استرضاء» العرب «المعتدلين»، فقد ظل المدخل الواقعي لهذا الاسترضاء، أي حل القضية الفلسطينية، أسير أهواء إسرائيل واللوبي الصهيوني في واشنطن.. ولا يزال.

أكثر من عشر سنوات انقضت على اقتراح ثلاثة رؤساء أميركيين لـ«حل الدولتين» في فلسطين.. والحل ينتظر الحسم الأميركي (أعلنه، للمرة الأولى، في 7 يناير/ كانون الثاني 2001، الرئيس بيل كلينتون، ثم تبناه الرئيس جورج بوش في كلمة ألقاها في 24 يونيو/ حزيران 2002، وأعاد تأكيده في افتتاح مؤتمر أنابوليس في 27 نوفمبر/ تشرين الثاني 2007، ليكرر الرئيس باراك أوباما التزامه به في خطاب القاهرة الشهير في 4 يونيو 2009، ثم في خطاب لاحق في 19 مايو/ أيار 2011).

كيف يطلب من أي مواطن عربي أن يثق بوعود واشنطن إذا كان ثلاثة رؤساء أميركيين عجزوا، وما زالوا للآن عاجزين، عن تحقيق وعد أميركي رسمي وعلني؟ وعليه؛ هل يجوز أن يحلم أي مواطن عربي بأن تعوض واشنطن، في سبتمبر 2011، عن بعض ما أبدته منذ سبتمبر 2001 من تجاهل لحقوقهم وتؤيد التوجه الفلسطيني إلى الأمم المتحدة «لانتزاع» اعتراف دولي بالدولة الموعودة.. أميركيا؟