ليبيا ودروس الثورات العربية

TT

اليوم وبعد إزاحة صخرة معمر القذافي ثقيلة الوطأة، والتي ظلت تجثم على صدور الليبيين وتكتم أنفاسهم لما يقرب من 42 سنة متتالية، حق لهم أن يحتفلوا، ومعهم عشرات الملايين من أشقائهم العرب ممن أدماهم الحكم الفردي المستبد، كما حق لهم أن يغلبوا روح الأمل والتفاؤل بالمستقبـل، بيد أن هذا لا يجب أن يحجب عنهم طبيعة المهام الشاقة التي تنتظرهم في مقبل الأيام والشهور.

لقد كان حكم القذافي استثنائيا بكل المقاييس، ليس لأن الرجل كان أكثر جبروتا وسطوة من زملائه من الرؤساء العرب المخلوعين أو في طريقهم إلى الخلع، بل لأنه قد حكم ليبيا لما يزيد على أربعة عقود بضرب من الفردية المزاجية التي قل نظيرها في العالم، فكل شيء في ليبيا متقلب بتقلب مزاج العقيد وشطحاته السياسية والفكرية التي لا تنتهي.

المهم هنا أن الليبيين وبفضل تضحياتهم الكبيرة وشدة جلدهم قد تمكنوا من إزاحة هذا الحكم الغشيم واستكمال ما بدأه جيرانهم في تونس ومصر. ولا شك أن نجاح الثورة الليبية من شأنه أن يدفع بموجة التغيير في المنطقة العربية خطوات أخرى إلى الأمام، فمثلما بعث هذا النجاح بنفس لأمل جديد إلى الشارع المتحرك في سوريا واليمن فإنه بعث برسالة يأس إلى حكام صنعاء ودمشق المتقلبين بين الحياة والموت. ذهب في روع القذافي أنه اكتشف الدواء السحري الذي لم يفطن له من قبله بن علي ومبارك، وهو الاستخدام المفرط للعنف، وتحويل الخوف إلى الجهة الأخرى للقضاء على «جرثومة» الثورة في مهدها، وقد حول القذافي فعلا ليبيا بطولها وعرضها مخبرا حيا لنظريته «العالمية الثالثة» في مواجهة الثورات، إلا أن أقصى ما فعله الرجل لا يزيد على تمديد بضعة أشهر في عمره الافتراضي وليس أكثر من ذلك.

الآن وقد غدا حكم القذافي في عداد سجلات الماضي القريب، فقد حان النظر إلى المستقبل أكثر من الانشغال بالماضي، مثلما حان الوقت فعلا للثورات العربية أن تتعلم من بعضها البعض، تعزيزا للمكاسب وتجنبا للأخطاء والهفوات. صحيح أن الأوضاع العربية بما في ذلك في الأقطار العربية الثلاثة التي اتصلت ثوراتها جغرافيا وسياسيا، لا تخلو من تباينات وخصوصيات، إلا أن ذلك لا يلغي بأي حال من الأحوال مساحات التشابه.

الحقيقة أن ما جرى في ليبيا هو ثورة شعبية مدفوعة بإرادة الحرية والكرامة لا تختلف عما جرى قبل ذلك على حدودها الغربية في تونس والشرقية في مصر، فقد ثار التونسيون ومن بعدهم المصريون معتصمين بحركة الشارع وقوة الاحتجاج الشعبي في مواجهة حكم فردي بغيض، وهو ذات المشهد الذي رأيناه عند انطلاق الثورة الليبية في بنغازي وسائر المدن الشرقية، بيد أن جنح القذافي إلى استخدام ذاك الحجم من القوة النارية بما في ذلك استعمال الطائرات والصواريخ، ثم اعتماده على العصب الحيوي للكتائب بعد أن انفرط عقد الجيش من حوله، قد فرض على الليبيين التحول باتجاه الثورة الشعبية المسلحة، ومن ثم دخول الحلف الأطلسي على الخط على النحو المعروف.

المهم أن يدرك الليبيون اليوم أن إسقاط القذافي هو إحدى المهام الشاقة وبالغة الحيوية ولكنها قطعا ليست المهمة الوحيدة والنهائية، بل ما زالت تنتظرهم منازلات ومعارك أخرى لا تقل خطورة وأثرا على مصير ليبيا ومستقبل شعبها. ولعله من المفيد هنا لأشقائنا الليبيين وهم يتهيأون للدخول في هذه الحقبة الانتباه إلى العناصر التالية:

أولا: إن الحلف الأطلسي الذي حرك جيوشه وطائراته فيما يقرب من سبعة آلاف طلعة جوية، ليس منظمة خيرية تعمل في سبيل الله أو في سبيل إغاثة الملهوفين والمكلومين من الليبيين أو غيرهم، بل هو في أساسه مظلة عسكرية مدفوعة بالاعتبارات الاستراتيجية ومصالح الدول الكبرى المكونة له. وعليه فإن الدول التي كانت لها مساهمة متقدمة في العمل العسكري ضد نظام القذافي ستظل لها أجنداتها وأولوياتها التي ستدافع عنها بكل شراسة في مرحلة ما بعد القذافي. وما يعني هذه الدول بدرجة أولى بعد نجاح المهمة العسكرية هو التحكم في المشهد السياسي الليبي القادم، بمؤسساته وخياراته ورجاله أيضا، ثم ضمان موطئ قدم أكبر في قطاعي النفط والغاز الليبيين الواعدين. فالفرنسيون الذين كانوا المحرك الأكبر للحملة العسكرية ضد القذافي، والذين اهتزت الأرض من تحت أقدامهم بفقدان بن علي ومبارك العزيزين على قلوبهم، هم اليوم منشغلون بتثبيت أقدام رجالهم وتوسيع دائرة نفوذهم وعقودهم النفطية العاجلة والآجلة، بل إن شركة «توتال» الفرنسية بدأت من الآن في نيل نصيبها الوافر من الغنيمة النفطية الليبية، كما أن الإيطاليين الذين سبق لهم أن نالوا نصيبا كبيرا من الغنيمة الليبية عبر نسج علاقات شخصية متينة بين القذافي وبرلسكوني لن يفرطوا فيها بسهولة. سبق لوزير الخارجية الإيطالي فرانكو فراتيني أن نفى وجود صراع ساخن فرنسي - إيطالي على ليبيا ما بعد القذافي، ولكن مجرد التصريح بالنفي قد يعني الإثبات في عالم السياسية المعقد. وقل ذات الشيء عن الإنجليز والأميركيين الذين لم يغيبوا أصلا عن الساحة الاقتصادية والسياسية الليبية منذ أن طبعوا العلاقات مع القذافي في العشرية الأخيرة.

طبعا ليس مطلوبا من ساسة ليبيا الجدد الضرب عرض الحائط بكل المصالح الاقتصادية والسياسية الدولية الكثيرة، بل ما هو مطلوب منهم الوعي بثقل الرهانات الدولية على بلدهم، ثم بناء علاقات متوازنة من دون ارتهان أو استسهال لمطالب الخارج وإملاءاته الكثيرة. إن تمتين العلاقة بالجوار العربي والإسلامي، وخصوصا مصر وتونس ودول الخليج، وكذا تعزيز الصلات والتشاور مع الجامعة العربية، من شأنه أن يمنح حكام ليبيا الجدد أرضية صلبة للدفاع عن مصالح بلدهم وحماية قرارهم المستقل بدلا من الاستفراد بهم في لعبة «الأمم الكبرى» في مرحلة ما بعد العقيد.

ثانيا: إن التحدي الأكبر الذي سيواجه الليبيين اليوم وبعد استكمال تحرير ليبيا من بعض الجيوب التي ما زالت تسيطر عليها كتائب القذافي، هو التحكم في حركة السلاح وضبط استخدامه، بحيث لا يتم الاحتكام إليه بأي حال من الأحوال في تسوية الخلافات السياسية. إن إقدام الليبيين على حمل السلاح ضرورة أملاها الطابع الاستثنائي لحكم القذافي، وهذا لا ينقص شيئا من أهمية الثورة الليبية وتضحيات رجالها ونسائها، ولكن المهم أن يقتصر دور السلاح على هذه المهمة ولا يتعداها، وقد أظهر الليبيون إلى حد اليوم قدرا كبيرا من الوعي وسعة الصدر فيما بينهم، فلم ينجروا إلى منازع الانتقام والتشفي، ويؤمل أن تستمر هذه الروح مستقبلا حتى يحافظ البلد على توازنه واستقراره.

ثالثا: يجب أن يدرك الليبيون، كما أدركنا نحن في تونس، وأشقاؤنا في مصر أنه لا يوجد شيء مؤقت وانتقالي في عالم السياسة، بل الأرجح أن المؤقت سيتحول إلى دائم، وربما ينطبق هذا الأمر على الحالة الليبية أكثر من غيرها، حيث سيتم الشروع في إقامة دعائم وضع جديد من فراغ، ولا أعلم إن كان من حسن حظ الليبيين أو سوئه أن القذافي بفرديته الفجة لم يترك خلف حكمه المنهار شيئا يذكر أو يصلح للبناء عليه. ولكن ما هو مؤكد هنا هو أن المؤسسات والرجال الذين سيتسلمون إدارة المرحلة الانتقالية، ستكون لهم اليد العليا في تشكيل معالم المرحلة القادمة ورسم قواعد اللعبة السياسية من هياكل ومؤسسات وقوانين وكذلك من رجال. ونصيحتنا لأشقائنا الليبيين هي عدم التساهل في التعامل مع المرحلة الانتقالية بذريعة أنها مؤقتة ومحدودة حتى لا يتم الغدر بثورتهم أو الالتفاف عليها.

رابعا: إن المرحلة القادمة ستشهد معركة بناء الأجهزة الأمنية والعسكرية وسيواجه الليبيون السؤال الكبير من أين يبدأون وكيف؟ الواضح الآن أن هناك إرادة أميركية وأوروبية لتجنب السيناريو العراقي الفاشل الذي قام على حل الأجهزة الأمنية والسياسية السابقة تحت عنوان «تطهير البعث»، وهذا يعني في الحالة الليبية إعادة بناء وترميم الأجهزة التي خلفها القذافي على ضعفها وتبعثرها، مع الاكتفاء بتغيير عقيدتها العسكرية والأمنية. ومثل هذا الخيار وإن كان من شأنه التقليل من احتمالات الفوضى وتصرم الأوضاع إلا أنه يحمل في طياته خطر استمرار النظام القديم بأثواب جديدة و«مشغلين» جدد، يمسكون مقود التوجيه والقيادة في حقبة ما بعد نظام القذافي. وهنا يجب أن يحذر الليبيون من أن يتحول الثوار إلى مجرد تروس صغيرة في آلة عسكرية وأمنية لا سلطان لهم عليها، أو أن تفرض عليهم أجهزة دولة لا يتحكمون في مصائرها ووجهتها.

إن المرحلة الانتقالية تحتاج فعلا إلى الجمع بين صلابة الإرادة ورجاحة العقل، ومن ذلك القدرة على جمع كلمة الليبيين وتوحيد صفوفهم وتغليب روح المساومة والوفاق على منازع الأثرة والسيطرة، ولكن مع الحذر كل الحذر من أن تتحول ليبيا إلى مجرد غنيمة ونهب للأقوياء في الخارج، وبعض المجموعات المتنفذة بقوة الأجهزة في الداخل.