مقدمة رسالة إلى المشير

TT

مع كل الاحترام لتاريخكم العسكري والوطني، أكتب إليكم مبتغيا مرضاة الله وسلامة الوطن. وأبدأ مقدمة رسالتي بالقول: إنه يجب على الجميع الاعتراف بأننا لسنا في مرحلة انتقالية بل في منعطف تاريخي، فإما أن نضع فيه مصر على المسار الصحيح ونصبح جزءا من العالم المتقدم، وإما أن نضعها على مسار آخر يأخذنا إلى القرون الوسطى. الأمر في يدكم اليوم والخيار أمامكم، وسوف يحكم التاريخ.

السيد المشير، أدعي أنني أول من قال يوم 28 يناير (كانون الثاني) إن المهمة الاستراتيجية اليوم تتمثل في الحفاظ على تماسك الدولة المصرية وعمودها الفقري المتمثل في قواتنا المسلحة، ولقد شرفت شخصيا بخدمة العلم كضابط احتياط في عموم سيناء من منفذ رفح إلى طابا إلى الجورة والشيخ زويد. ولكن ما يهمني اليوم هو أن أضع أمامكم بعض النقاط التي أراها جوهرية وعلامات على طريق نقل مصر إلى حالة الاستقرار المستدامة التي ترقى بالوطن والمواطن.

بداية.. قوة الدولة تتمثل في قوة مواطنيها جيشا وشعبا، وتتأتى هذه القوة من فهم لمعطيات الوضع الداخلي أولا، ثم الوضعين الإقليمي والدولي في جو من الحرية؛ إذ لا فضل اليوم لمصري على مصري إلا بالثورة.

مسألة الأمن الإقليمي أساسية بالنسبة لاستقرار مصر، وهنا لا أختصر الموضوع في الجبهة الشرقية فقط وعلاقة مصر بإسرائيل، وإنما أطرح أمامكم تحديات الأمن الإقليمي مجتمعة كتصور استراتيجي. فاختزال الأمن الإقليمي في موضوع إسرائيل هو سبب تخلفنا لعقود خلت، وهو الذي جعل أيدينا مغلولة في قضايا ربما تكون أكثر أهمية في سلم الأولويات المصرية، وهو أيضا الذي جعل الحوار الجاد حول قضايا الأمن القومي يتحول إلى ضوضاء يتصدر مشهدها صغار الصحافيين ممن يستبدلون بالفكر تافه القول من الشعارات الرنانة.

إن التحدي الإسرائيلي، مضافة إليه تحديات أفريقيا، وعلى رأسها مسألة مياه النيل، وتحدي الجبهة الغربية المتمثلة في حالة الاضطراب، وربما الحرب طويلة الأمد التي قد تتسيد المشهد الليبي ودول الجوار، وكذلك أمن البحر الأحمر من قراصنة الصومال حتى ديغو غارسيا، حيث المخزون النووي الأميركي، ثم مسألة إيران وكذلك أمن المتوسط.. كلها قضايا لا بد أن توضع في تصور استراتيجي متكامل للدولة المصرية (new framwork for security).

أما التحدي الثاني فهو مرتبط بدور الدولة المصرية في شبكة العلاقات الدولية الحاكمة للعالم اليوم. وحتى هذه اللحظة، سواء في هذا العهد الجديد أو عهد مبارك، لم يحدث نقاش جاد حول علاقة مصر بالعالم في إطار مجرد، بل كلها كانت في إطار ما يُعرف بتلوين الحقائق السياسية من أجل مكاسب صغيرة في الداخل لقوى بعينها. بعد الثورة لا بد أن يبدأ هذا الحوار الجاد، ويعرف المشير أنه قد يكون في داخل القوات المسلحة عشرات الأفراد (لن أقول أكثر) ممن يفهمون في هذا القضية، وإذا أضفنا إليهم عشرة آخرين من المجتمع الأكاديمي ممن درسوا الأمن بشكل جيد، نكون قد شكلنا مجموعة قادرة على طرح تصور لعلاقة مصر بالعالم، بأسلوب يليق بنا كدولة تطمح إلى وضع أفضل في النظامين الإقليمي والدولي.

أما الوضع الداخلي أيها السيد المشير، فحتى هذه اللحظة، لحظة مليونية «تصحيح المسار»، هناك ثقة مفقودة بين الشعب والحكم. فليس هناك من بين المصريين من يثق في أن المجلس العسكري سوف يسلم السلطة، دع عنك قصة الانتقال إلى الديمقراطية. كيف يصدقونكم، وأنتم تقولون بأنكم سوف تديرون انتخابات شفافة، بعد أن مكنتم الإخوان والسلفيين من كتابة القوانين والمبادئ الدستورية التي ستحكم العملية الانتخابية؟ كيف نقبل اللعب في لعبة نعرف أنها مغشوشة ومزورة من أول إطلاق صافرة المباراة؟

إن التحدي الأكبر للنظام المقبل، كما كان التحدي بالنسبة لنظام مبارك، هو شرعية هذا النظام، أي أن يكون النظام نبتا طبيعيا لمجتمعه، كان نظام مبارك فاقدا للشرعية وكان يعوضها بالتسلط. اليوم انتهى عهد الاستبداد، ولا شرعية إلا بالتوافق الوطني، وحتى هذه اللحظة لا يشارك المصريون في صناعة هذا التوافق. ما هو مطروح اليوم هو توافق النوادي المغلقة في مدينة واحدة من الوطن، وهي القاهرة، لكن مصر أكبر من القاهرة ومن نواديها المغلقة.

هناك فرصة نادرة لحوار جاد حول خارطة طريق واضحة يضعها المحترفون في كل مناحي الحياة، من التعليم إلى الاقتصاد إلى السياسة إلى العمران، ومصر مليئة بأحسن الكفاءات في معظم هذه المجالات، لكن الجماعة التي التفت من حول المجلس العسكري من أول أيام الثورة، أقنعته بأن خيرة شباب مصر وعلماء العالم من المصريين ممن درسوا في الخارج هم مجموعات من الخونة أو عملاء لدول أجنبية، فأقصي هؤلاء من صناعة مستقبل مصر، فليس لهم حق الترشح للمناصب العامة ولا حتى حق الانتخاب. وبدت مصر، بعد تعديلات طارق البشري، كبلد متخلف إلى أقصى الحدود. انبهر العالم بثورة المصريين، ثم أتت التعديلات الفاشية على الدستور لتشوه وجه مصر بعد الثورة.

السيد المشير، أدعوك إلى التعقل والروية في اختيار من يديرون الحوار حول خارطة الطريق، وأن يكون الانتقاء ليس عن طريق توصيات شفوية، بل أن يكون مبنيا على المعايير الموضوعية. مصر مليئة بالكفاءات، فقط اخرج من العباسية، أو اخرج من النوادي المغلقة وسوف تكتشف مصر أخرى. مستقبل مصر أهم بكثير من تلك الهرولة التي تحدث من أجل تحقيق مكاسب صغيرة.

المجلس العسكري ارتكب أخطاء كبيرة في إدارة المرحلة الانتقالية، وليس عيبا أن يصحح مساره بدلا من العناد ووضع مصر على طريق تورا بورا وطالبان. نحن نريد دولة حديثة تليق بمصر التاريخ والحضارة.