يصلون نهرا ويذهبون بحرا

TT

الديمقراطية ديكتاتورية الأكثرية، يقال. وتشرشل قال إنها أفضل الأنظمة السيئة. ولكن في اليوم الأخير من رئاسة جورج دبليو بوش، أسوأ رئيس غربي في الذاكرة، حزم حقائبه وذهب إلى بيته. وتشرشل الذي قاد بريطانيا في نصر الحرب، سقط في الانتخابات وضب علبة السيجار وانصرف إلى الرسم والكتابة. المقصود بالديمقراطية الاحتكام إلى الناس. أنقذ ديغول فرنسا من نفسها ومن تفككها، وأنقذها من خيانة المارشال بيتان، وأنقذها من الاحتلال الألماني، ولكن عندما خسر الاستفتاء بأكثرية ضئيلة ترك باريس وذهب إلى منزله الريفي، حيث كان قد تبادل قطعة من الأرض مع مختار البلدة، مقايضة.

الأنظمة الجمهورية تقضي بأن يتغير الرئيس بعد دورتين، لكن الجمهوريات في العالم الثالث اقتدت بالنظام السوفياتي، حيث يبقى الحاكم مدى الحياة. فأسقطت الملكية في مصر وحل مكانها جمهورية مؤبدة، ومن ثم مورثة أيضا. وفي اليمن أسقطت الإمامة وبقي الإمام المسلح. وفي ليبيا أبعد الملك البائد وحل محله الضابط المؤبد. وفي عهد إدريس السنوسي توحدت ليبيا واستقلت، وفي العهد الجمهوري عادت إلى نغمة طرابلس وبنغازي، فيما فزان خائفة وهادئة.

بعد موجة الاستقلال في العالم الثالث استولى على السلطة عسكريون لا يعرفون سوى منطق القوة. نقلوا النظام السوفياتي لأنه يناسبهم. جاءوا بالقوة وأزيحوا بالقوة أو بالقتل، من أول أفريقيا إلى آخر آسيا. في حين كان الحل غاية في البساطة: دورتان من 14 عاما، أو 12 عاما، ثم كفى. مارغريت ثاتشر أعادت الحياة إلى بريطانيا، لكنها أرغمت بعد عشر سنوات على الذهاب إلى المنزل الريفي، مثلها مثل ديغول وأيزنهاور وتشرشل وأديناور وجميع التاريخيين. اهترأ الاتحاد السوفياتي من تحت ليونيد بريجنيف، فلما قضى كان كل شيء قد قضى. لم يعش الاتحاد من بعده سوى سنوات قليلة، ولا الكي جي بي، ولا الحزب، ولا المكتب السياسي. لقد خرَّب الصدأ كل شيء.

نحن أخذنا النظام السوفياتي، ولذلك ينتهي كل شيء بالدماء، لا تقاعد ولا منزل ريفي، وإنما تمليك مفتوح: 999 عاما حسب قانون العقار البريطاني. ومعروف أننا سيد من ركب التسعات ووضبها إلى جانب بعضها البعض، زرافات ووحدانا، كما قالت العرب. وعلى هذا نكون اخترعنا الصفر سدى. لقد توقفنا عند التسعة وعلقنا عليها وعلقتنا بها، فكان أن «علقت» في كل مكان، كما يقول ظريفنا أبو العبد، أو «علئت» بلهجته البيروتية.

يا جماعة، دورتان، عقد ونصف العقد، ألا يكفي؟ هل من الضروري أن تصلوا في نهر من الدماء وأن تذهبوا على بحر منه؟