سوريا: أحلام العربي.. أُم الأجنبي!

TT

في زيارة خاطفة وسريعة جدا للعاصمة السورية دمشق، التقى الأمين العام لجامعة الدول العربية، نبيل العربي، رئيس سوريا، بشار الأسد، لينقل إليه «مبادرة» عربية لإصلاح الوضع في بلاده، التي وصلت فيها الأوضاع إلى مراحل مأساوية لا يمكن السكوت عنها بسبب المجازر والمذابح التي ترتكبها قوات الأمن والجيش السوري بحق شعبها ولم يعد من الممكن السكوت في ظل الغضب السوري الشعبي المتزايد والإجماع الدولي المتصاعد لتأييد الثوار السوريين لمطالبهم الكريمة.

وطبعا، كما كان متوقعا، غادر نبيل العربي الاجتماع بعد أن سمع إلى «الهراء» التقليدي عن مؤامرات تحاك ضد سوريا، واختراق البلاد من تنظيمات وجماعات مسلحة، وغير ذلك من الهرطقة السياسية التي لم تعد تقنع حتى متابعي برامج الأطفال. لكن النظام السوري تعود لأربعين عاما أن تبيع هذه النوعية من البضاعة الرديئة، وكانت دوما ما تجد لها السوق والزبون، لكن ذاك كان زمنا، واليوم أزمان أخرى، في اليوم نفسه الذي وصل فيه نبيل العربي إلى دمشق تم قتل أكثر من 40 سوريا عن طريق شبيحة النظام والجيش، ومعظمهم كان في مدينة حمص المحاصرة بشكل جنوني، التي يتساقط فيها يوميا ما معدله 20 شخصا منذ بداية شهر رمضان المبارك الماضي، وكذلك تم الإعلان عن انشقاق الكتيبة 62 من الجيش السوري في مدينة درعا، البالغ قوامها 500 ضابط وجندي و30 ناقلة جنود ومدرعة وآلية مضادة للطيران، وتم أيضا تسليم جثمان الناشط الشاب غياث مطر، ابن الـ26 عاما، لأهله منزوع الحنجرة بعد تعذيبه في المعتقلات الجهنمية لهذا النظام الدموي المستبد.. هذه كانت «عينة» من هدايا نظام الأسد لنبيل العربي بمناسبة عيد ميلاد بشار الأسد الذي تصادف وقوعه أمس، الحادي عشر من سبتمبر (أيلول).

شخصيا لا أعتقد أن نبيل العربي يؤمن بوعود بشار الأسد الإصلاحية أو يصدقها؛ لأن بشار الأسد نفسه غير مقتنع بها، وها هي السعودية، الدولة العربية الكبرى، ترسل إشارة رمزية، لكنها مهمة جدا، بإجلاء جميع رعاياها وأسرهم، البالغ عددهم قرابة الـ3500 فرد، من الأراضي السورية بشكل عاجل، مما يدل على القناعة بأن الأمور تسير في اتجاه التصعيد الكبير ضد النظام المتهالك. نبيل العربي الذي جاء إلى منصبه الحالي من رحم الثورة المصرية يدرك تماما مطالب الشعوب للعيش بكرامة لا يردها القمع والقتل، والأمثلة الحية أمامه كشواهد في ليبيا وتونس وبلده مصر، ولا يمكن له أن يكيل بمكيالين؛ فيكون لسوريا ما ليس لليبيا ولمصر ولتونس، خصوصا أن الإرث القمعي في سوريا يشهد لنظام الأسد بالأمجاد، فقط اسألوا أهل حماه عن ذلك ويكفي. أرى أن زيارة نبيل العربي للأسد هي بمثابة قبلة الوداع لنظام آن الأوان للخلاص منه، فالكل يحاول أن يبتعد عنه بكل الأشكال، تركيا التي قرر رئيسها ورئيس وزرائها أنه لا أمل ولا جدوى من الحديث مع الأسد، وأن النظام الذي يريق الدماء للإصلاح سيُزال هو الآخر بالدم، في إشارة صريحة إلى أوان رحيل نظام الأسد، وكذلك النداء العجيب من الرئيس الإيراني نجاد بأهمية عقد مؤتمر إسلامي لمناقشة «مشكلة» سوريا (وكأن الثورات في ليبيا ومصر وتونس واليمن كانت لدول بوذية مثلا)، لكنها إشارة إلى قناعة إيران بأن حليفها الأول متورط وهي تحاول الابتعاد عن النظام بمسافة متزايدة، وها هي حماس تغادر بالتدريج موقعها في دمشق لاعتراضها على تصرفات النظام، لتنتقل بالتدريج إلى قطر، بينما اختارت «الجهاد» الانتقال إلى إيران، ولم يتبقَّ من مؤيدي النظام إلا أصوات «مريبة» مثل بطريرك الطائفة المارونية في لبنان، بشارة الراعي، الذي عبر عن تأييده للنظام في سوريا؛ لخوفه من أن البديل سيكون إسلاميا متشددا، وهذا كلام غير منطقي دفع بعض المسيحيين في لبنان إلى تقديم مذكرة اعتراض للفاتيكان على الراعي، لما اعتبروه دعما للقمع ومناهضا للحريات.

رفض العربي، في تصريحاته الأخيرة في دمشق، أي تدخل أجنبي في الأزمة السورية، متغافلا «دخول» عناصر إيرانية بالمئات من لبنان لدعم مباشر للجهاز الأمني القمعي السوري، لكن ذلك كله سيمنح الشعب السوري عزيمة أكبر ومتواصلة للخلاص من نظام لم يعد من المجدي معه لا تحاور ولا إصلاح.

[email protected]