البطريرك الماروني أعلن من يعتبره عدوه الحقيقي

TT

«هناك أسلمة في الإدارة اللبنانية، وهذا ‏أمر بات معروفا، ونحن نشعر بأننا مواطنون من الدرجة الثانية في هذا البلد»

(البطريرك الماروني بشارة الراعي – قاله عام 2007)

مثير الكلام الصادر عن البطريرك الماروني بشارة الراعي في فرنسا خلال الأسبوع الماضي.

مثير لجملة من الأسباب، مع أن المضمون السياسي للكلام غير مستغرب البتة من غبطة البطريرك، لا سيما عند أولئك الذين يذكرون جيدا ما كان يقوله ويثيره خلال السنوات الست الأخيرة، بعد انسحاب القوات السورية من لبنان. فهو خاض معركتين ضاريتين ضد حكومة فؤاد السنيورة عام 2007، مرة بحجة إلغائها عطلة «الجمعة العظيمة» والمرة الأخرى بحجة التزامها «تشريع حقوق الطفل في الإسلام». ويومذاك اتهم تلك الحكومة بالعمل على «أسلمة» لبنان.. وهذا بينما كان حزب الله يتهمها بأنها «أميركية» و«إسرائيلية». بل إن الراعي خاض معركتيه ضد حكومة السنيورة عندما كان الحوار جاريا بين حزب الله وميشال عون.. وتوج بعد بضعة أشهر بـ«ورقة تفاهم» بينهما!

المهم الآن، بعد ما قاله البطريرك في باريس، وإن لم يكن الأهم، هو أنه تراجع فيه عما سبق أن نقل عنه غير مرة، بعد انتخابه بطريركا، عن أنه «على مسافة واحدة من القوى المتصارعة» على الساحتين المسيحية واللبنانية. الواضح الآن أنه ليس أبدا على مسافة واحدة من الجميع، بل هو – علانية – على رأس فريق وضد فريق.. في مسألة خلافية مصيرية.

مواقف البطريرك في الأسبوع الماضي تضعه تماما في «معسكر» يضم ميشال عون، وتظلله «آيديولوجيا» طالما روج لها كريم بقرادوني، ويضم مؤمنين بـ«تحالف أقليات» إقليمي عدائي ضد الغالبية المسلمة السنية في الشرق الأوسط.. يعملون له مع شركاء لهم من طوائف أخرى، ويتأكد كل يوم – بالممارسة الميدانية والدليل الدموي المحسوس – أنها تكره هذه الغالبية أكثر بكثير من كرهها لأي «عدو» آخر...

أمر ثان مهم في مواقف البطريرك هو أنها أعلنت داخل قصر الإليزيه الرئاسي الفرنسي في قلب باريس. وأنه عبر عنها في موقع اتخاذ القرار السياسي في الدولة الكاثوليكية الوحيد التي تملك حق «الفيتو» في مجلس الأمن، والدولة الأوروبية الكبرى التي نصبت نفسها حامية للمسيحيين – وبالأخص الكاثوليك والموارنة – في المشرق العربي، وأخيرا وليس آخرا أمام الرئيس الذي كسر عزلة النظام السوري وأعاد «تسويقه» في الغرب رغم كل ما فعله بعد اضطراره لإنهاء احتلاله الفعلي والأمني للبنان عام 2005. ما فعله البطريرك الراعي، بكل بساطة، هو حث «باريس – نيكولا ساركوزي» على إعادة تأهيل نظام دمشق، من جديد، بالرغم من المجازر التي يرتكبها يوميا بحق شعبه، وهذا بعدما اكتشفت القيادة الفرنسية نفسها استحالة الوثوق بتعهداته.

ولننتقل إلى محطة أخرى..

البطريرك الراعي، وعدد من رجال الإكليروس المسيحي اللبناني، دأبوا طيلة ما كانوا يعتبرونه «احتلالا» على طرح قضية انسحاب القوات السورية من لبنان على أساس أنها قضية «تحرر» و«حقوق إنسان» للبنانيين. وبالتالي، من المفارقات المؤسفة تجاهله اليوم حرية المواطنين السوريين وحقوقهم الإنسانية، بينما هم يتعرضون لقمع أشد حتى من ذلك الذي عانى منه اللبنانيون من قبل، ومن «آلة القمع» نفسها، على امتداد ثلاثة عقود.

كذلك، كانت بين ذرائع مناوئي الوجود الأمني والعسكري السوري في لبنان – وبينهم البطريرك الراعي نفسه عندما كان لا يزال مطرانا – في مناهضة ذلك الوجود ومقاومته، أنه عمل على «تقسيم» اللبنانيين و«تحريض بعضهم على بعض»، ولعبه المستمر على تناقضاتهم في تقريب هذه الأقلية أو تلك في بلد لا أكثرية طائفية فيه. فهل غدا الآن في صميم مصلحة «الأقليات»، في سوريا ولبنان، المحافظة على هذا النظام بل والدفاع عنه؟

أما عن موضوع سلاح حزب الله، الذي دافع عنه البطريرك بالأمس مشكورا، يجوز لنا التساؤل عن تحمسه له اليوم بعد القرار الدولي 1701 الذي يحظر على «الحزب» الوجود العسكري والتسليحي جنوبي نهر الليطاني، وبعد استخدام «الحزب» سلاحه في الداخل اللبناني ضد شركائه في الوطن يوم 7 مايو (أيار) عام 2008، بينما كان قبلا ضده على طول الخط.. عندما كان يستخدم في عمليات تحريرية ضد الاحتلال الإسرائيلي.

أما التلويح بخطر تولي الإسلاميين السلطة في سوريا، فهو – شئنا أم أبينا – تلويح بخطر افتراضي بهدف التعتيم على حقيقة مريرة قائمة فعلا. لقد شارك الإسلاميون في الحياة السياسية السورية منذ عقود عديدة، ومع أن المسلمين السنة – من العرب والأكراد والتركمان والشركس وغيرهم – يشكلون أكثر من 80 في المائة من مجموع السكان فإن نسبة تمثيلهم في البرلمان كانت ضئيلة جدا على مر السنين. أضف إلى ذلك أنه في عهد الديمقراطية في سوريا تولى درزي (منصور الأطرش) رئاسة المجلس الوطني لقيادة الثورة ودرزي آخر (شوكت شقير) رئاسة أركان الجيش، ومسيحي (فارس الخوري) منصبي رئاسة الوزارة ورئاسة مجلس النواب.. ولم تنزعج الغالبية السنية من ذلك أبدا.

ثم إن الأحزاب الكبرى التي أقبل المسلمون السنة في سوريا على الانخراط فيها كانت تضم قيادات رفيعة من غير السنة، من مستوى ميشال عفلق وميخائيل ليان ودانيال نعمة وحنا كسواني وغيرهم. وعليه، إذا كان هناك «تشدد» إسلامي سني – يقلق البطريرك الراعي – اليوم.. فهو ناجم عن تراجع الديمقراطية والحريات لصالح الديكتاتورية والتسلط والتحريض الفئوي.

في أي حال قد يكون من المفيد أن نتذكر أن الفكرة من «تحالف الأقليات» لم تولد البارحة. فهي كانت في صميم الفكر الإمبريالي والعنصري الغربي الطامع بالشرق. وعندما أبصرت الحركة الصهيونية النور، قبل عقود من نجاحها بتأسيس إسرائيل، شجعت عليها وعملت على تنفيذها باعتبارها وسيلة تفتيت وفتنة مضمونة النتائج. والنسخة القديمة الجديدة من «تحالف الأقليات» تأتي هذه الأيام مع استفحال الهجمة «الشعوبية» وتفاقم التصارع المذهبي على المشرق العربي.

فليس من العبث، أن تغض إسرائيل تحت سلطة الليكود الطرف عن ولادة «دويلة شيعية» في لبنان كان أحدث منجزاتها في ظل حكومة حزب الله، بالأمس، – وبصمت يصم الآذان – إسقاط شرط تأشيرة الدخول للإيرانيين، وأن تحذر مرارا من «مخاطر» تغيير النظام في دمشق. وفي المقابل، تطل تركيا لملء الفراغ العربي وتطرح نفسها «حامية» للسنة في وجه الهجمة الإيرانية على كل من العراق وسوريا ولبنان.

«تحالف الأقليات» لن يعيد العرب من أهل السنة «إلى الصحراء من حيث أتوا» – كما قال أحدهم في باريس أيضا عام 1920 –... بل سيزج المشرق العربي في حروب لا تنتهي إلا بلحاق مسيحيي سوريا ولبنان، بإخوتهم مسيحيي فلسطين والعراق.. في مهاجر ما وراء البحار.