شجاعة مجانية!

TT

هدأت قليلا الضجة التي ثارت في الثاني من هذا الشهر، بين تركيا وإسرائيل، عندما قررت الأولى طرد سفير الثانية من العاصمة أنقرة.. فوقتها - وكان ذلك قبل أيام قليلة على كل حال - ملأت أخبار ما جرى بينهما الدنيا، وشغلت الناس، في العواصم العربية عموما، وفي القاهرة بشكل خاص، ولم يكن في مقدور أحد، وقت الحدث، الحكم بموضوعية على المسألة إجمالا، لأن العاطفة كانت جياشة، من ناحيتنا، نحن العرب، ثم المصريين، وكانت مسيطرة، بل وكانت حاكمة، وكان العقل غائبا، ولا يزال.

ولو أن أحدا دقق في الأنباء الصادرة عن العاصمتين، خلال الساعات الأخيرة، فربما يلاحظ أن الغزل المتبادل بينهما لم ينقطع، وأنه بدأ يعود قليلا.. قليلا، وأن الطرفين أحرص الناس على وجود علاقة عميقة وراسخة بينهما.. سوف تدوم!

صحيح أن رئيس الوزراء التركي قرر طرد السفير الإسرائيلي احتجاجا على تقرير صادر عن الأمم المتحدة يقول إن إسرائيل حين هاجمت أسطول الحرية، في مايو (أيار) قبل الماضي، كانت تدافع عن نفسها.. فالأسطول كان يضم السفينة التركية «مرمرة»، وكان على ظهرها ثمانية أتراك راحوا ضحية الهجوم، وكان الأسطول كله يحمل مساعدات غذائية، وإنسانية، إلى غزة المحاصرة.. ولكن الجيش الإسرائيلي لم يمهله، وهاجمه في عرض البحر المتوسط، وأوقع الضحايا إياهم، وقامت الدنيا بين الحكومتين التركية والإسرائيلية، وقتها، ثم قعدت في النهاية، لأنه كان لا بد لها أن تقعد!

وصحيح أن وزير الخارجية التركي قرر خفض التمثيل الدبلوماسي الإسرائيلي في عاصمة بلاده إلى مستوى السكرتير الثاني، بما يعني أن كل دبلوماسي إسرائيلي تعلو درجته الوظيفية هذا المستوى أصبح عليه بعد القرار أن يغادر تركيا، خلال المهلة التي حددتها الحكومة هناك، وهو ما حدث فعلا!

وصحيح أن حكومة رجب طيب أردوغان قررت تجميد عدة اتفاقات عسكرية بينها وبين حكومة نتنياهو في إسرائيل.

وصحيح.. وصحيح.. إلى آخره ما جرى في هذا الاتجاه.. ولكن الأصح منه، أن الحكومة التركية، وهي تقرر هذا كله، كانت في الوقت نفسه تقرر قبول نشر قطع من الدرع الصاروخية التابعة لحلف شمال الأطلنطي على أراضيها، وهو قرار صادف استحسانا في العاصمة الأميركية، وأعلن البيت الأبيض استحسانه هذا رسميا، بما يعني أن تركيا، وهي تقرر طرد السفير الإسرائيلي، وتخفيض مستوى التمثيل الدبلوماسي، وتجميد اتفاقات عدة، كانت تعرف ماذا تفعل بالضبط، وكانت منذ البداية قد حسبت حدود الحكاية تماما، وكانت تعرف أنها سوف تكسب، في كل الأحوال، ولن تخسر شيئا له قيمة!

بل إن رئيس وزراء إسرائيل، ووزير دفاعه، قالا معا، ما معناه، إن تركيا قد تركت الباب بينهما مواربا، وإن ذلك يعني سهولة إصلاح ما طرأ على العلاقة من تصدعات مستقبلا.

وحين تحاول أنت أن تربط ذلك كله بعضه ببعض، فسوف تكتشف في النهاية أن ما جرى منذ اللحظة الأولى، إلى لحظتنا هذه، شبه متفق عليه بين البلدين، لا لشيء إلا لأن تركيا، منذ وقع الهجوم في العام الماضي، كانت تريد اعتذارا إسرائيليا واضحا عما تم في حق مواطنيها الثمانية، وكانت أنقرة، في الوقت ذاته، تعلم أن إسرائيل لن تعتذر، وكانت تل أبيب تدرك أن حكومة أردوغان لا يمكن أن تواجه شعبها دون اعتذار في يدها، ولذلك كان لا بد من حل من نوع ما، وكان قرار طرد السفير هو هذا الحل الذي هو من نوع ما، وكان لا بد أن يتصرف الطرفان، في أثناء القرار وبعده، وكأنه «طارئ» فعلا، وكان من مقتضيات التصرف على هذه الأرضية أن يمارس كل طرف حقه كاملا في الغضب، وفي السخط، وفي إعلان الضيق، وفي.. وفي.. إلى آخره، لينال كلا الطرفين، من الأمر، ما يخصه، وما يجب أن يناله، إلى أن تأخذ القضية حجمها الطبيعي، ويتراجع الاهتمام بها، بين قطاعات الرأي العام، تحت ضغط انصراف الاهتمام إلى قضايا أخرى تطرأ بالضرورة.

ولا بد أن الذين طالعوا مانشيتات الصحف القاهرية، بشكل خاص، قد هالهم أن نكون نحن في القاهرة على هذا القدر من السذاجة، إزاء الحدث بإجماله، وخصوصا جانبه التركي.. فقد كان هناك ولا يزال إعجاب مصري شعبي شديد بالشجاعة التركية في مواجهة الغطرسة الإسرائيلية، وقد وصل هذا الإعجاب إلى حد معايرة الحكومة المصرية بعجزها، وقلة حيلتها، في مواجهة الغطرسة نفسها، عندما سقط خمسة ضباط وجنود مصريين، على الحدود المصرية الإسرائيلية، قبل قرار طرد السفير إياه، بأيام قليلة.

ولم يكن عندي مانع، ولا أظن أن هذا المانع موجود عند غيري، في أن تتحلى الحكومة المصرية بأعلى درجات الشجاعة، في مواجهة غطرسة إسرائيلية لا تتوقف.. لم يكن هناك أي مانع، بشرط أن نكون مدركين، منذ البداية، أن الشجاعة التركية التي بدت أمامنا في القرار، إنما هي شجاعة مجانية، إذا صح التعبير، لأن الشجاعة الحقيقية، هي التي يكون لها ثمن، ويكون على الذي يبدي الشجاعة أن يدفعه راضيا.. أما أن تكون شجاعة من النوع التركي، فهي مجانية، في أحوالها كلها، لأن تركيا - أولا - لا تملك حدودا مباشرة مع إسرائيل، على عكس الحال في مصر، ولأن تركيا - ثانيا - تعرف أن عدم وجود حدود من هذا النوع، بينها وبين تل أبيب، سوف يعفيها كاملا من دفع أي ثمن مؤكد، أو حتى محتمل، لموقفها.. وإلا فهل دفعت تركيا أي ثمن إلى الآن، أو حتى سوف تدفعه، في مقابل شجاعتها التي أخذت عقولنا؟!

ليس هذا تقليلا من قيمة القرار التركي، على الإطلاق، فهو موقف له احترامه وقدره، وإنما دعوة إلى وضع الموقف بكامله، في حدوده الطبيعية، دون تهويل، ودون تهوين! وليس هذا، في الوقت نفسه، دعوة إلى أن تتخاذل الحكومة المصرية، أو أن تخنع، أو تخضع، فلا تحصل على حقوق مواطنيها كاملة.. بل على العكس.. كان مطلوبا من الحكومة في القاهرة، ولا يزال، أن تتصرف كما تصرفت الحكومة في أنقرة، ولكن من خلال أدوات مختلفة، لأن الأداة المتاحة في تركيا، غير الأداة المتاحة في مصر، مع الإقرار بأن ما سوف تحققه الأدوات هناك، وهنا - في القاهرة - على الرغم من اختلاف مسماها وطبيعتها، يمكن أن يكون واحدا في النهاية!

كان في يد الحكومة المصرية أكثر من أداة، ليس من بينها بالطبع طرد السفير، لأن طرده له ثمن لسنا - في ظني - مؤهلين - في الوقت الحالي - لدفعه، في حين أن الطرد في تركيا كان بلا ثمن، وسوف يظل، ولذلك راحت تمارسه، دون تردد، وهي تعرف ماذا تفعل!

بين أنقرة وتل أبيب شعرة معاوية، إذا شدتها تركيا، راحت إسرائيل ترخيها، والعكس صحيح.. وهذا هو معنى السياسة الذي غاب ويغيب عن حكومة في القاهرة تبدو في مواجهة كل موقف يواجهها، وكأنها تعيش في عالم آخر!