مبارك أفقيا

TT

نشرت صحيفة «الأهرام» صورة للرئيس المصري المخلوع حسني مبارك وهو ممدد أفقيا على سريره أثناء محاكمته. الصورة كانت بالحجم ذاته الذي ظهرت به صورة مبارك المزورة التي بدا فيها متقدما الرئيس الأميركي باراك أوباما ومعه الملك عبد الله الثاني ملك الأردن ومحمود عباس رئيس السلطة الفلسطينية، في آخر زيارة لمبارك إلى البيت الأبيض. دافع يومها أسامة سرايا رئيس تحرير «الأهرام» عن التزوير، قائلا إن التلاعب الذي حدث في الصورة لم يكن تزويرا بل كان تعبيرا عن الدور المصري في مؤتمر شرم الشيخ الذي عقد بعد تلك المقابلة بين الزعماء الأربعة في البيت الأبيض. فهل يمكننا اعتبار صورة مبارك الممددة أفقيا على صفحات «الأهرام» منذ يومين صورة تعبيرية أيضا، تعبر عن الأوضاع التي تدور في مصر الآن، وتعبر عن حال الصحافة المصرية، وتعبر عن اختزال الثورة وتشويه صورتها وتحويلها إلى حالة من الانتقام والتشفي كبديل عن أهداف الثورة النبيلة التي احترمها العالم؟

أبدأ بالصحافة، الحال هو هو لكنه كصورة مبارك «حال مايل»، كما يقول المصريون عندما لا يعجبهم أمر.. فصورة مبارك الممدد كانت بنفس الحجم وفي نفس المكان في الصفحة الأولى من جريدة «الأهرام» مع فارق بسيط، ففي أيام عزه وعلى مدى سنوات حكمه كلها كان الرئيس مبارك منتصبا رأسيا على الصفحة الأولى لـ«الأهرام»، واليوم نراه أفقيا بالحجم نفسه، وفي المساحة ذاتها. مبارك أفقيا كان أم رأسيا يتصدر صفحات «الأهرام».. لا شيء تغير كثيرا، ولكن فقط «الحال مايل».

ربما هناك رمزية أخرى نستقيها من الصورة، وهي أن مبارك ونظامه ما زالا ممددين كالشوكة في صدر الوطن، ولهذا تبدو الثورة مختنقة بعد مرور سبعة أشهر على الإطاحة بمبارك. رمزية الصورة تقول إن مبارك موجود في السجن الرئاسي، لكن نظامه ما زال يحكم البلد بنفس وزرائه ونفس إعلامه الشمولي الذي منع بالأمس أي فضائيات من الظهور في مصر قبل انتخابات يقول إنها ستكون نزيهة ولكن في ملعب غير مستو. وفي هذه الانتخابات، على العكس من مباريات الأهلي والزمالك، ممنوع حضور الحكام الأجانب، فسوف يدير المباراة حكم محلي. كيف لا نرضى بالحكم المحلي في مباريات القمة بين الأهلي والزمالك، ونرضاه في الانتخابات الرئاسية؟ هكذا كان منطق مبارك ومنطق صفوت الشريف في الانتخابات التي مرت بها البلاد في عهد مبارك على مدار ثلاثين عاما.. انتخابات مجالس الشعب والشورى والرئاسة.. في كل الحالات، كان نظام مبارك يعتبر الرقابة الدولية على الانتخابات انتقاصا للسيادة المصرية، أما وجود قوات دولية تراقب خروقات معاهدة كامب ديفيد في كل سيناء المقسمة إلى ثلاث مناطق (أ، ب، ج) والمنقوصة السيادة فعلا، فهذا ليس مساسا بسيادة مصر، ولكن مراقبة الانتخابات فقط فيها انتقاص للسيادة. اليوم نواجه المنطق ذاته، لا رقابة خارجية على الانتخابات.. منطق مبارك ذاته الذي لم يعد واقفا رأسيا على صفحات الجرائد بل تمدد أفقيا.

ثم نأتي إلى حادثة السفارة الإسرائيلية الأخيرة التي تمثل نظام مبارك بشحمه ولحمه ورؤيته ذاتها. في عهد مبارك، كان صفوت الشريف يوعز للصحافة بأن «تشد شوية» على الأميركيين والإسرائيليين، في الوقت نفسه الذي يكون فيه مبارك إما في لقاء مع الإسرائيليين أو في زيارة للبيت الأبيض. حكومة تحرض مواطنيها في الداخل على عكس ما تنتهجه هي في صفقاتها خلف الأبواب المغلقة. عندما قام المواطن محمد الشحات بإنزال العلم من على السفارة الإسرائيلية، يومها أعطاه محافظ الشرقية المعين من قبل حكومة عصام شرف شقة من شقق المحافظة كمنحة، وقلدته الحكومة وساما. فكيف لحكومة تحترم نفسها أن تعطي شقة من أموال الدولة ووساما لفرد قام بخرق القانون؟ وبعد أن ثار المجتمع الدولي على اقتحام السفارة الإسرائيلية هرعت الحكومة إلى فرض قانون الطوارئ!.. كيف أن أحد أعضاء الحكومة متمثلا في المحافظ كافأ الشحات على هذا العمل (البطولي) وتأتي الحكومة الآن لتقول إن خرق القانون غير مسموح به؟ كيف تكون الحكومة هي المحرض والحكم في الوقت ذاته؟ لماذا لم يعف هذا المحافظ من منصبه، والذي يظن أن شقق المحافظة ملك يمينه يعطيها لمن يشاء ويمنعها عمن يشاء؟ أليس هذا ما كان يفعله مبارك وجماعته ممن كانوا يظنون أنهم يملكون الوطن بمن فيه وما عليه؟

عيب أن نحرض أولادنا على خرق المعاهدات الدبلوماسية الدولية ثم ندعي السذاجة أمام العالم بعدها. أصل المشكلة ليس لدى محمد الشحات المواطن البسيط، أو أي مواطن مصري آخر، قد يكون مدفوعا بغيرة وطنية ضد ممارسات إسرائيل المتعجرفة، بل المشكلة والمسؤولية تقعان على من هم في الحكم، فالمحافظ الذي كافأ فردا على اختراقه القانون نسي أنه جزء من الحكومة، وأنه قد شجع بذلك الآخرين على ارتكاب أفعال مماثلة، لكنه من أجل مكاسب شعبية صغيرة ورط البلد برمته في خرق دولي جعلنا أضحوكة أمام الأمم، وبدلا من أن ينظر العالم إلى ثوار مصر الشرفاء على أنهم من صنعوا ثورة بيضاء أذهلت العالم، أصبحت صورة ثورتنا اليوم وكأنها ثورة بلطجية.. فهل كانت هذه النية مقصودة؟ هل هذا هو هدف الحكومة، تشويه صورة الثورة في نظر العالم. إن لم يكن هذا هو سلوك مبارك بعينه، فماذا يكون؟ أعرف أن مبارك غير قادر على الوقوف، لكن المخيف هو أنه ممدد أفقيا على الصفحة الأولى لـ«الأهرام» بنفس المساحة وفي نفس المكان، أليست هذه صورة تعبيرية أكثر من الصورة المزورة التي نشرتها «الأهرام» منذ شهور؟