خريف السلام

TT

على مدى ثلث قرن، وربما أكثر، لم نمل القول: لا حرب دون مصر ولا سلام دون سوريا.

إنه شعار موضوعي إلى حد كبير، وما يجري الآن في سوريا ومصر وما يحدثه الوضع الداخلي في البلدين من تأثيرات مباشرة ومحتملة على قضية الحرب والسلام، يعيدنا من جديد إلى ذات الشعار.

إن باروميتر السلام الدقيق، وحركته صعودا وهبوطا يتجسد أكثر ما يتجسد في إسرائيل ودعونا نحاول قراءته من هناك.

قبل مغادرة مبارك سدة الحكم في مصر، وقبل اشتعال المظاهرات والاحتجاجات في سوريا.. لم يكن يراود حكام إسرائيل وصناع القرار فيها أي قلق على صيغة السلام أو اللاحرب على الجبهة المصرية الجنوبية والجبهة الشمالية السورية، وحتى الخروقات الجزئية في الوضع العام على هاتين الجبهتين مجسدة في غزة وجنوب لبنان، لم تصل يوما حد التهديد بحرب إقليمية واسعة النطاق، نرى فيها الجيوش تعد لمواجهة، بل إننا ورغم سخونة جبهتي غزة وجنوب لبنان لم نسمع بشيء عسكري مصري وسوري مثل رفع درجة الاستعداد ولو على نحو مظهري أو من قبيل المناورة.

بلمح البصر تغير المشهد.

في إسرائيل ارتفع مؤشر القلق إلى أعلى مستوى يبلغه على مدى زمني يزيد عن ثلث قرن، وعادت الجبهة الجنوبية المتجمدة إلى وضعها فيما قبل مرحلة سلام كامب ديفيد لتشكل مصدر قلق استراتيجي. أما الجبهة السورية فإن هدوء الأمر الواقع طويل الأمد ارتبط بتطورات الثورة الداخلية وخلاصاتها بمعنى أن هذه الجبهة المتجمدة ولأمد طويل عادت لتصبح مصدر قلق كذلك.

إن أكثر شطحات الخيال جسارة لم تصل بعد حد تصور حرب عسكرية تقليدية بين الجيوش المصرية والسورية والإسرائيلية، ذلك أن العناصر الثلاثة ليست بحاجة لحرب حتى تخرج من مأزق أو تغير واقعا لا يلائمها، إلا أن عدم الحاجة لحرب لا يعني الهدوء أو الاستقرار أو السلام.

إن للجبهات الصغيرة (غزة وجنوب لبنان) دورا مستمرا وفعالا في تجاوز جمود الجبهات الكبرى، لمصلحة اشتعال من نوع آخر ربما يكون أشد خطورة من اشتعالات يونيو (حزيران) وأكتوبر (تشرين الأول).

لنؤجل الحديث عن الوضع على الجبهة السورية الإسرائيلية إلى حين حسم الأمور الداخلية هناك دون إغفال أن إسرائيل تراقب بشغف تفاصيل ما يجري وتحاول قدر الإمكان التأثير على النتائج، وهذا أمر بديهي.

الحديث المباشر والآن، هو تطورات وتفاعلات ما وراء الجبهة الجنوبية، إن عملية إيلات التي تمت قبل أيام وتفاعلاتها الإسرائيلية والمصرية، شكلت مؤشرا نادرا وثمينا على الاحتمالات وفرضت على مصر وإسرائيل حتمية اللجوء إلى خيارات جديدة تمليها حسابات ما بعد الإطاحة بمبارك.. ولإسرائيل في هذا الصدد القراءة التالية:

إن غياب مبارك وإن كان لا يصل في تأثيره حد إلغاء المعاهدة المصرية الإسرائيلية، فإنه بالتأكيد خلق واقعا مختلفا في مصر يفرض حسابات وقرارات مختلفة.

لقد أخذت إسرائيل علما بإجماع القوى السياسية في مصر على احترام المعاهدة، إلا أن ما يقلق إسرائيل حقا هو تنامي دور الشارع المصري في التأثير على السياسات الرسمية. ففيما مضى لم يكن الشارع المصري غائبا عن التطورات المحيطة بالعالم العربي، إلا أن السلطات كانت تمتلك قدرة فائقة على وضع أسقف للتحركات الشعبية المصرية بما لا يصل حدود التأثير الاستراتيجي على الوضع مع إسرائيل، أما الآن وقد تراجعت موضوعيا قدرة السلطات على لجم الحركة الشعبية إلى حدود دنيا، فإن الباب أضحى مفتوحا على مصراعيه لرياح غير مواتية، تدخل إلى الشارع المصري بفعل التطورات السلبية المتسارعة أو بفعل مجازفة إسرائيلية واسعة النطاق لا يقبل الشارع المصري السكوت عنها. وإذا كانت عقلانية الشارع المصري وترتيب أولوياته تشكل عاملا مساعدا لصانع القرار المصري في أمر احتواء ردود الفعل ولو إلى حين، فإن سيناء الجديدة التي ولدت على إيقاعات حروب إسرائيل ضد غزة، وتنامي ظاهرة العنف فيما تسميه إسرائيل «بالإرهاب الإسلامي»، سيناء الجديدة هذه أضحت عبئا كبيرا وعاملا مؤثرا على مجريات الأمور بين مصر وإسرائيل.

ووفق الصيغة المعمول بها حتى الآن لم تعد سيناء في عام 2012 مجرد مساحة شاسعة تملؤها الرمال والكثبان والمدى، بل إنها أضحت ممرا لكل أصناف البشر والسلاح والخطر ولا شك أن إسرائيل هي من حول سيناء إلى هذا الوضع ليس فقط من خلال اعتراضاتها على تطوير الوجود العسكري والأمني المصري في تلك المنطقة وفقا لصيغة كامب ديفيد، بل من خلال حروبها على غزة وإهمالها الغبي للترابط الوثيق بين السلام مع مصر والسلام مع الفلسطينيين والعرب.

السلام المصري الإسرائيلي صمد طويلا، وصمد إلى جواره الأمر الواقع السوري الإسرائيلي إلا أن ما أظهرته الثورات في مصر وسوريا والمتغيرات على مدى أكثر من ثلث قرن، هو أن بناء السلام القديم، وبناء الأمر الواقع المستمر امتلأ بالفراغات والتشققات، حتى وصل الخلل إلى الأساسات، وامتد إلى الأطراف البعيدة وأعني بها إيران وتركيا، فهل هنالك بوابة أعلى وأوسع من بوابة الصراع العربي الإسرائيلي وتفاعلاته حتى يدخل منها الشقيقان المسلمان إلى الحلبة!!

حين تصل الأمور إلى هذا الحد فإن المعالجات الجزئية التي تجري تجربتها الآن تبدو كما لو أنها أقراص من المهدئات ذات مفعول مؤقت، وقد تراكم بعض ذرات من الرماد فوق مكامن النار المضطرمة، إلا أنها وإن أبعدت عن هذه المنطقة شبح الحروب التقليدية الواسعة فإنها سوف تقود إلى ما هو أخطر وأفدح ثمنا.. وهو عدم الاستقرار الطويل بما ينجم عنه حتما من توترات واضطرابات لها أول وليس لها آخر..

إذن لا مناص من تغيير الصيغة؛ أي ترميم البناء المتشقق المتداعي، أو إقامة بناء جديد، يشعر فيه كل طرف أن لا حاجة له ولا مصلحة في خلق الاضطرابات..

هل هذا ممكن؟؟ لا أحد يجزم، إنما يمكن الجزم بأن استمرار الصيغة الراهنة والمعالجات المجتزأة لها لن تجلب سلاما واستقرارا وإنما موتا بطيئا لمنطقة هي من أهم مناطق العالم.