بشارة الراعي.. ونذارته

TT

فقأ بطريرك الموارنة في لبنان، الدمل، وكشف المستور، و«بق البحصة» كما يقال في دارجة بلاد الشام الكبير.

تحدث، في زيارته الأخيرة لفرنسا، عن هواجس معروفة، وقديمة، لدى كثير من مسيحيي المشرق حيال حكم الأكثريات السنية في البلاد العربية، خصوصا بلاد الهلال الخصيب ومعها مصر، حيث مراكز الكثافة للمسيحيين العرب.

البطريرك بشارة الراعي، أكثر تسييسا من سلفه صفير، وهو مهموم بمسألة الأسلمة، ومصير مسيحيي الشرق، خصوصا موارنة لبنان، مهموم بهذه المسألة منذ عدة سنوات، حينما كان راعيا لأبرشية جبيل في لبنان.

لكن توقيت كلامه الأخير، بعد اندلاع الثورة السورية ضد الحكم الدموي لعائلة بشار الأسد، جاء توقيتا متفجرا وساخنا، ومحرجا للضمير المسيحي العربي بشكل عام، لأن مؤدى كلام الراعي هو أن المسيحيين العرب هم مع الحكم الدموي في سوريا، حتى ولو خاض في الدماء، إذا كان ذلك سيمنع وصول إسلاميين سوريين إلى الحكم، الأمر الذي يعني قيام تحالف بين سنة سوريا، وسنة لبنان، مما سيؤثر على وضع ودور الموارنة والمسيحيين - بشكل عام - في لبنان، وهو ما يعني بشكل أكثر وضوحا، وخطورة، الدعوة إلى «تحالف أقليات» في بلاد الشام ضد الأكثرية السنية، بصرف النظر عن أن ذلك سيؤدي إلى إدامة الاستبداد والقهر للأكثرية.

حتى لا نتجنى على راعي الموارنة في لبنان، فهو لم يقل ذلك باللغة التي نقولها الآن، بل كان دقيقا وحذرا في كلامه عن وجوب العدل وحقوق الشعوب في الحريات، ولكنه حينما أشار إلى التلويح بأن البديل عن نظام الأسد، على الأرجح، هو جماعات إسلامية، سنية بطبيعة الحال، فهو قد أرسل الرسالة القاتلة إلى مشاعر المتلقين لكلامه ممن يقفون ضد مجازر الحكم الأسدي التي تزداد صلفا وفجورا يوما بعد يوم.

هو أيضا اصطف في معسكر مسيحيي النظام الأسدي في سوريا أمثال الجنرال عون، وغيره، رغم أنه كان يعلن من حين توليه لكرسي بكركي أنه على مسافة واحدة من جميع القوى، لكنه بهذا التصريح وضع نفسه بالكامل في معسكر عون وحزب الله وأمل، كما يلاحظ الكاتب الزميل إياد أبو شقرا في مقاله الأخير بهذه الصحيفة.

من أجل ذلك كله صعق رموز المعارضة المسيحية في صفوف «14 آذار» من كلام البطريرك، وتنادوا للتعليق عليه، والتعبير عن نقده ورفض رهن المصير المسيحي ببقاء النظام الأسدي، وكأن خلاص الشعب السوري من بطش الأسد يعني الإضرار بالوجود المسيحي!

حزب القوات اللبنانية كان الأعلى صوتا في الاعتراض على مقاربة البطريرك، الفرنسية، وأيضا نائب رئيس البرلمان فريد مكاري الذي تحدث عن أن 70 في المائة من مسيحيي لبنان ليسوا متفقين مع كلام الراعي، وأنهم منحازون للثورة السورية، وكذلك قال دروي شمعون رئيس حزب الوطنيين الأحرار، الذي ذكّر الراعي بما فعله النظام السوري بالدور المسيحي في لبنان، حيث إن القوة السياسية المسيحية اللبنانية إنما ضربت وقهرت على يد قوات ومخابرات حافظ الأسد وابنه بشار، وليس على يد قوى سنية!

أما قوى السلطة الجديدة، عون، وحزب الله، وأمل، فسارعوا طبعا إلى الترحيب بـ«حكمة» البطريرك.

يبدو أن الأمر لم يكن من الممكن السكوت عنه، بعد ردود الفعل هذه، لذلك سارع البطريرك الراعي إلى «تفسير» كلامه من جديد، وقالت صحيفة «النهار»، الصحيفة الأشهر في لبنان، إن البطريرك الراعي لم ينتظر ما تردد عن رغبة كثيرين في لقائه لشرح حقيقة مواقفه، بل حرص فور عودته على عقد لقاء إعلامي مصغر حضرته «النهار» ورغب عبره في تفصيل بعض ما لم يقله في كلامه لدى وصوله إلى مطار بيروت.

ورأى في هذا اللقاء أن كلامه في فرنسا «اجتزئ وأخرج من إطاره ولذلك فُهِمَ على غير محله أو تم تحويره». وأعلن أنه ركز في محادثاته مع المسؤولين الفرنسيين على ثلاثة أمور هي: «أولا أننا مع الإصلاح في العالم العربي على كل المستويات بما فيها المستوى السياسي وفي كل الدول العربية بما فيها سوريا، كما أننا مع مطالب الناس بحقوقهم وبالحريات العامة. ثانيا أننا لسنا مع العنف من أي جهة أتى (...). وثالثا لسنا مع أي نظام أو ضد أي نظام ولا ندعم أي نظام».

وذكر البطريرك الراعي «إننا أبرزنا مخاوفنا من ثلاثة أمور أيضا هي الانتقال من الأنظمة القائمة التي تتصف بالديكتاتورية إلى أنظمة متشددة (...) وتاليا فإن الخوف هو من الاختيار بين السيئ والأسوأ، كما نخشى أن نصل إلى حرب أهلية، لأن مجتمعاتنا مؤلفة من طوائف ومذاهب (...)، ولا يمكن أن ننسى احتمالات التقسيم إلى دويلات مذهبية يذهب ضحيتها المسيحيون أيضا». وأشار إلى أن المسؤولين الفرنسيين أخذوا ملاحظاته في الاعتبار «ولم يبد الرئيس ساركوزي أي تحفظات»، لافتا إلى «أنني تحدثت عن مخاوف للاستدراك وليس للتأكيد أن هذه الأمور ستحصل».

حتى نكون منصفين، وبصرف النظر عن مواقف البطريرك الراعي، قبل أن يتولى موقعه الروحي المسيحي الأبرز خلفا للبطريرك صفير، مع تيار عون، أو موقفه من سلاح حزب الله، أو مواقفه ضد «أسلمة» حكومة السنيورة للإدارة في لبنان، كما نسب إليه سابقا، بصرف النظر عن هذا كله، فإنه من الحيف والتعامي عن الحقيقة ألا نقول إن هناك قدرا كبيرا من المخاوف «الواقعية» لدى مسيحيي الشرق ولبنان، وكل الأقليات، تجاه مستقبل العالم العربي، وكيف سيكون شكل وطريقة الأنظمة الجديدة التي ستحكم العالم العربي، خصوصا مع صعود الإسلاميين بشكل حاد تناغما مع «التسونامي» الثوري العربي.

نعم.. من المغالطة أن نبخس من هواجس البطريرك الراعي ونحن نرى ماذا جرى لمسيحيي العراق، وكيف يعيش ملف أقباط مصر توترا دائما.

النقاش ليس في واقعية هواجس المسيحيين ورموزهم الدينية مما يجري أو سيجري، فهي في النهاية هواجس يجب تفهمها والإصغاء إليها وتجفيف كل موارد التعصب الديني في مجتمعاتنا، وهي بالمناسبة لم توفر حتى المسلمين أنفسهم! ولكن الاختلاف مع مقاربة كمقاربة البطريرك الراعي، الأولى طبعا قبل التوضيح الأخير، هي في الرهان على أن بقاء نظام كنظام الأسد سيمنع من ازدهار التعصب الديني الطائفي السني، على العكس، بل إن بقاء نظام يعتمد على الشوكة الطائفية، ويغذيها بشكل متواتر تحت قشرة خطاب علماني نضالي، هو الخطر الأكبر، وهو الغذاء «الأدسم» لجسد التعصب الديني السني!

الخوف مبرر الآن من انفلات الغضب السني على شكل مجاميع مقاتلة مع فجور آلة القتل الأسدية في سوريا وعدم وجود من يلجمها سياسيا.

لكن لنتذكر، وأكيد أن البطريرك المثقف يعرف ذلك أكثر منا، أن المجتمع السوري هو من أكثر المجتمعات العربية نفورا من الطائفية، وهو الذي تولى قيادة حركته الوطنية منذ قرن رموز شتى من كل طوائف ومكونات لبنان (فارس الخوري، سلطان الأطرش، صالح العلي.. إلخ).

الخشية هي من العكس، وهي أن استمرار النظام الأسدي في ممارسة القتل والفجور الدموي، هو الذي سيغذي خطاب التعصب الديني السني، لذلك فإن وجود حضور مسيحي ودرزي وعلوي وشيعي وكل مكونات النسيج السوري في الثورة يقضي على مزاعم الخطاب السني المتعصب والحاصر للمواجهة في ثنائية طائفية مقيتة.. إن أراد مستقبلا تسويق روايته عن الثورة.

إنها لحظة الخيارات الصعبة، ولكنها خيارات تنحاز للعقل والمنطق والمصلحة، قبل أن تكون منحازة للإنسان أولا وآخرا، وهذا هو جوهر رسالة المحبة المسيحية كما نعرف، وهي أمانة الراعي لرعيته.

[email protected]