الحاجة الفورية لميثاق للوحدة الوطنية الليبية

TT

بينما يتهاوى العهد الهمجي في ليبيا على وقع ثورة السابع عشر من فبراير، وبينما يتطلع الليبيون إلى الانعتاق من عهد الاستبداد والفوضى والفساد، يشوب الابتهاج إشفاق مما تحمله في طياتها مرحلة ما بعد القذافي، خاصة على خلفية التوجس من عدم قدرة القوى السياسية الموجودة على الساحة الليبية من التعايش فيما بينها والخشية من عدم بروز مرجعية قيادية من بين صفوفها قادرة على الإمساك بزمام الأمور عقب انهيار نظام القذافي.

إننا نقف إكبارا للمجلس الوطني الانتقالي الذي كان سفينة النجاة في ساعة العسرة. ولكن المجلس أعلن على الملأ في إعلانه الدستوري أن ولايته ستنقضي خلال ثمانية أشهر بعد التحرير، وبذلك يكون قد رد الأمانة إلى أهلها.

إن القوى السياسية الموجودة حاليا على الساحة الليبية هي الجهات القادرة على إنقاذ ثورة السابع عشر من فبراير بعد سقوط القذافي، فعلى هذه الجهات أن تعي جيدا مسؤوليتها التاريخية أمام الشعب الليبي ومسؤولية ذهاب دماء الشهداء هباء إن وقعت البلاد ضحية التطرف أو التشظي.

إن الوحدة الوطنية الليبية تدور على المحاور الثلاثة الآتية:

1) إن أولى المسائل التي يجب حسمها في أي طرح للوحدة الوطنية الليبية هي مسألة القبلية. فنظرا لضعف مكونات المجتمع المدني في ليبيا، فإن اللقاء القبلي سيظل يلعب دورا لا يمكن تجاهله. ولكن الأجدر للقبيلة أن تحصر في حيزها الطبيعي ولا تكون ساحة من ساحات اللقاء السياسي. ولا يخفى الدور الهدام الذي لعبته القبلية على يد القذافي، ولعل من الأسباب التي أتاحت له هامشا لمقاومة الثورة طيلة ستة أشهر التركيبة القبلية لكتائبه التي استطاع أن يحتفظ بولائها برشوة زعماء قبائلها الذين يلتف حولهم أتباعهم بكل سطحية التبعية القبلية؛ وقد لا يكون الأمر ولاء للقذافي بقدر ما هو نجاحه في إثارة الحزازات القبلية القديمة وإزجاء الوعود لهذه القبيلة أو تلك بأن تكون لها الغلبة والصدارة على منافساتها إذا استتب له الأمر من جديد. ولعله من الجدير بالتأمل أن المدن التي هبت في وجهه في المناطق الغربية منذ بدايات الثورة هي مدن لا تسود فيها التركيبة القبلية ولا يطغى فيها نموذج «المدينة - القبيلة». وهكذا فإن من أول الدروس المستفادة في هذا الصدد هو ألا تكون القبيلة أساسا للتعبئة السياسية في المجتمع الليبي الجديد الذي يجدر به أن يلتف حول المبادئ لا حول القبائل.

2) إن المحور الثاني من محاور الوحدة الوطنية في ليبيا هو مواجهة الجهوية والنزعات الانفصالية ومحاولات العودة إلى الصيغة الفيدرالية البدائية (شرق - غرب - جنوب: برقة - طرابلس - فزّان). فلم يكن أحب إلى القذافي أثناء الثورة من فصل شرق البلاد عن غربها، على أن ينفرد بالغرب ويضم إليه منابع النفط الرئيسية. ولولا الوقفات التاريخية الحاسمة في مصراتة والزاوية وجبل نفوسة (أو«الجبل الغربي»، الذي ينم اسمه الثاني بكل وضوح عن إحداثياته الليبية إذ إنه جبل «في غرب» البلد الأم (ولو كان طرابلسيا فقط لما كان غربيا!)؛ لولا هذه الوقفات لادّعى القذافي أن الثورة شرقية انفصالية. ولكن جذوة الجهوية، التي هي تعبير آخر عن العقلية القبلية، ما زالت حية في بعض النفوس التي لا تريد أن ترى أن الجهوية خاصة في هذه المرحلة انتحار سياسي مثلما أنها انتحار ثقافي سيؤدي في النهاية إلى التشظي وإلى اندثار الشخصية الليبية وتجريدها من هويتها الثقافية المغاربية.

3) أما المحور الثالث من محاور الوحدة الوطنية الليبية فهو وحدة القيم السياسية، فلا تكفي وحدة الوطن الترابية وسلامته من الجهوية والقبلية دون وحدة القيم السياسية المبنية على القيم الديمقراطية، وأهمها في هذه السياق تقبّل الاختلاف والتعددية في إطار مقاصد الشريعة الإسلامية.

وهنا نخص بالذكر من القوى السياسية الموجودة حاليا على الساحة الليبية مختلف الأطياف الليبرالية والإسلامية دون استثناء لأي من الحركات السياسية الأخرى في تحمل المسؤولية عن تبديد المخاوف حول حقيقة تصورات هذه القوى السياسية للمرحلة القادمة وإمكانية تعايش هذه القوى فيما بينها.

إننا نضع الاعتبارات الآتية بين يدي الحركات الليبرالية:

1) إن «الليبرالية» أيديولوجية مثلها مثل غيرها من الأيديولوجيات السياسية، فلا يجدر بنا أن نتوهم أنها ترتفع فوق الأيديولوجية أو أنها تخلو من «البنية التحتية» الأيديولوجية المبنية على وجهة نظر كونية معينة تحمل دون شك آثار نشأتها الغربية.

2) إن التجربة الديمقراطية إن قيض لها النجاح في منطقتنا فلن تكون بالضرورة ديمقراطية ليبرالية مستنسخة من الديمقراطيات الغربية بل ستكون ذات خصوصية إسلامية.

3) إن الديمقراطية ذات الخصوصية الإسلامية تعني التعددية ضمن المقاصد العامة للشريعة الإسلامية أي ثوابت الشريعة ومبادئها العامة وليس أحكام الفقه القياسي الجزئية المتروكة للتطبيقات الفردية (كما سنرى بشيء من التفصيل بعد قليل).

كما نضع الاعتبارات الآتية بين يدي الحركات الإسلامية:

1) إن ثورة السابع عشر من فبراير في ليبيا، مثلها في ذلك مثل الثورتين التونسية والمصرية اللتين سبقتاها بأسابيع قليلة، والثورتين اليمنية والسورية اللتين ما زالتا تستعران، إنما هي ثورة من أجل الديمقراطية.

لا ينكر إلا مغرض دور الحركات الإسلامية في هذه الثورات، كما لا ينكر إلا مغرض أن شعبا كالشعب الليبي جله مسلم بل متدين لا يجد صعوبة في أن يرى عدم تعارض الإسلام مع ما يراه من جوانب إيجابية في الديمقراطية، ولكن الوضوح الفكري التام هو المطلوب هنا. فبينما نكرر ولا نفتأ نكرر أن الشباب الثوار لو سئل معظمهم لا يرون تعارضا بين الشريعة والجوانب التي يرونها إيجابية في الديمقراطية، ولكنهم قد ثاروا مباشرة ضد الاستبداد من أجل الديمقراطية. فالأمانة التامة تقتضي أن من ينضوي تحت لواء هذه الثورات إنما ينضوي تحت لواء الديمقراطية.

2) بينما قد لا يصعب الاتفاق بين السواد الأعظم من المسلمين على عدم تعارض الإسلام مع ما يرونه من إيجابيات في الديمقراطية، فإن الديمقراطية بمعنى تقبل الخلاف السياسي والتعددية السياسية مكسب إنساني لم يتبلور إلا في القرون الأخيرة، وإن كان مصدره من الغرب فإنما هو هنا الغرب الحضاري بوجهه الإنساني الأخلاقي لا بوجهه الاستعماري الامبريالي. فلا يكفي القول بأن الديمقراطية في إيجابياتها لا تتعارض مع الإسلام بل يجب التأكيد عليها كمفهوم حديث مستقل لمنع الالتفاف عليها.

3) لقد قيل قبل ثورات الربيع العربي إن «الإسلام هو الحل»، ولكن ما يجب أن يقال بعد هذه الثورات هو أن «الديمقراطية والإسلام هما الحل»، أي الديمقراطية ضمن ثوابت الإسلام (وما تقديم الديمقراطية على الإسلام في هذه العبارة إلا لأن الديمقراطية هي خط الدفاع الأول لضمان التطبيق السوي للشريعة). وثوابت الإسلام هي قبل كل شيء مقاصد أخلاقية وليست مجرد مظاهر وأشكال، كما أنها تعبير عن الإسلام الحضاري الذي هو في أي بلد إسلامي مقوم أساسي من مقومات الهوية الوطنية أو القومية يجدر أن يجمع عليه المتدينون وغير المتدينين حتى بصرف النظر عن الاعتقاد والممارسة الشخصية. فثوابت الإسلام تنبع من نظرة كونية معينة ذات رؤية أخلاقية محددة تتقدم في ضوئها قيم معينة على قيم أخرى. وقد يكون من ذلك مثلا تقديم مبدأ «العفة عن مال الغير»، أو، بتعبير آخر، عدم أكل المال بالباطل، على مبدأ الحرية السوقية غير المنضبطة في مجال المعاملات المالية، ومن ثم حظر المعاملات التي تعتبر وفقا لمقاصد الشريعة المنضبطة ربوية أو غررية، فهذه قيمة من قيم الشريعة الثوابت التي لا يتصور أن تدور الديمقراطية في سياق مجتمع مسلم إلا في فلكها. وكذلك تقديم مبدأ «الأصل في ممارسة الغرائز التقييد» ومبدأ «الأصل في العلاقة بين الجنسين التقييد» على نقيضه غير الإسلامي وهو مبدأ «الأصل في ممارسة الغرائز وفي العلاقة بين الجنسين الإباحة»، وما يترتب على هذه الأولويات من قيام المجتمع على حد أدنى من الانضباط في الاختلاط وحد أدنى من تجنب التبرج. فهذه أمثلة للثوابت التي يصعب تصور تفعيل الديمقراطية في سياق مجتمع مسلم إلا في إطارها، ولكن دون تركيز على المظاهر والأشكال على حساب المقاصد والأخلاق.

4) إن «التكفير» لا يجتمع أبدا والديمقراطية. فعندما يصبح المجتمع محكوما بثوابت الشريعة على الوجه الذي ذكرناه يغدو الخلاص الفردي أمرا لا يمكن احتكاره إذ يتوقف على مدى عمق التجربة الروحية الفردية. إن تأكيد القرآن الكريم على أن الله يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء لا يعني عدالة تحكمية لا معايير لها، كما قد يتوهم البعض، بل يعنى أن الخلاص أو الهلاك الأُخروي، وبالتالي التكفير والتفسيق، أمر لا يمكن لفرد أن يقطع به بالنسبة لفرد آخر «وقالت اليهود والنصارى نحن أبناء الله وأحباؤه قل فلم يعذبكم بذنوبكم بل أنتم بشر ممن خلق يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء ولله ملك السموات والأرض وما بينهما وإليه المصير» (المائدة: 18).

رب ضارة نافعة، فبينما لم تترك سرعة نجاح الثورتين التونسية والمصرية مجالا للإفصاح بما لا يدع مجالا للشك عن موقف الإسلاميين في تونس ومصر من القيم الديمقراطية، فإن طول الأمد النسبي للثورة الليبية، وتوقف نجاحها من بين عوامل أخرى على شفافية الحركات الإسلامية وتمكنها من الاستمساك بعروة الوحدة الوطنية، يجعل الفرصة سانحة أمام هذه الحركات لكي تدرك في هذه اللحظات العصيبة ألا وحدة وطنية حقيقية، ومن ثم لا نجاح للثورة، إلا بالقيم الديمقراطية، فتكون بذلك قد حسمت من الآن أمرها وتأهبت لولوج مرحلة ما بعد العهد الهمجي على شفافية وبينة.

إننا نتمنى على الليبراليين الإفصاح عن التزامهم بخصوصية التجربة الديمقراطية القادمة وأنها لن تخرج عن إطار القيم الإسلامية.

أما الحركات الإسلامية الليبية فهي مؤتمنة على الإفصاح فورا وبكل شفافية عن موقفها من القيم الديمقراطية، وبالتحديد عن تقبلها للاختلاف والتعددية والدولة المدنية وأن الديمقراطية ليست مجرد آلية قد تنقلب إذا جردت من قيمها إلى دكتاتورية الأغلبية، وأن تربأ هذه الحركات بنفسها عن التكفير والتفسيق، وأن تتوافق على أن تطبيق الشريعة الإسلامية يعني مقاصدها العامة وليس بالضرورة أحكام الفقه القياسي الجزئية المتروكة للتطبيقات الفردية بكل حرية.

ولعل أنسب صيغة للوحدة الوطنية في المرحلة الحالية أن تشترك جميع الحركات السياسية في إصدار ميثاق وطني تربأ فيه بنفسها عن القبلية والجهوية وتتعاهد فيه على التعايش فيما بينها في ظل القيم الديمقراطية.

فإذا لم يقيّض للحركات السياسية الليبية النجاح في مواجهة ما يجابه البلاد من تحديات، فإن السيناريوهات البديلة أبعد ما تكون عن الوردية. فالتطرف والتشظي كوابيس تقض المضاجع بين الحين والآخر. بل إن أفضل السيناريوهات لن يكون إلا محرجا إن لم يكن محزنا، وهو وصاية الأمم المتحدة على ليبيا لمدة كافية يتم في خلالها إقرار دستور في ظل استفتاء شعبي حر تحت إدارة مراقبين دوليين وانتخاب السلطتين التشريعية والتنفيذية وفقا لما سينص عليه الدستور. وهكذا قد يعيد التاريخ نفسه إذ إن البلاد قد مرت بتجربة مماثلة (إذ إن اسم مندوب الأمم المتحدة في ليبيا في تلك الفترة، وهو أدرين بلت، ما زال حيا في التاريخ الليبي الحديث)، وذلك منذ أكثر من ستين عاما في مرحلة ما قبل الاستقلال، فتعود البلاد بذلك إلى أيام الصبا كأنها ما زالت فتية لم تشب عن الطوق وكأنها ما اعتبرت بمر السنين!

* الأستاذ السابق بقسم الشريعة - كلية القانون - جامعة بنغازي