نقاش خارج الزمان!

TT

إذا كانت المادة لا تفنى ولا تخلق من عدم، كما تعلمنا في دروس مادة الفيزياء؛ فإنه لا توجد مشكلة أو صراع يختفي من الوجود حتى ولو تغير العالم من حوله، وكل ما يحدث أن الأمر يأخذ أشكالا جديدة تتكيف مع ما يجري من تغيرات، أو هكذا تعلمنا من مادة التاريخ. جاءني هذا الشعور عندما حضرت محاضرة مشتركة بين الأستاذ غيث العمري الذي كان واحدا من مستشاري الرئيس محمود عباس؛ وديفيد مايكوفسكي الخبير في معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى. وكان موضوع المحاضرة هو طلب منظمة التحرير الفلسطينية من الأمم المتحدة الاعتراف بدولة فلسطين، وما يعتري الطلب من مشكلات ومصاعب سواء في مجلس الأمن؛ حيث أعلنت أميركا صراحة أنها سوف ترفض القرار حينما يرد إلى مجلس الأمن، أو في الجمعية العامة للأمم المتحدة؛ حيث يبدو أن الطلب سوف يلقى تأييدا واسعا ولكنه تأييد كالعادة سوف يأتي ممن يؤيدون الحق الفلسطيني فعلا، أما الولايات المتحدة وأوروبا وغيرهما فربما كان التأييد ضعيفا.

المسألة هكذا تبدو كما لو جاءت من زمن آخر، فمع الثورات العربية المتعاقبة فإن القضية الفلسطينية تراجعت إلى الوراء، ولا نقول اختفت، خاصة أن وحدة الفصائل الفلسطينية التي ساد الظن أنها كانت من أهم النتائج الإيجابية للربيع العربي لا يبدو أنها أسفرت عن شيء، وما زالت فتح وحماس في حالة الانقسام التي كانتا عليها منذ فترة طويلة. ومع تعقد الأمور في سوريا، وانتظار الدول والشعوب لما سيحدث في ليبيا واليمن، فإن حصول القضية الفلسطينية على مقدمة المسرح العالمي سوف يكون فيه قدر غير قليل من الافتعال، وربما ينتظر العالم حتى تمر، ويحصل الفلسطينيون على اعتراف جديد بحقوقهم، ولكن الحال يبقى كما كان دائما على ما هو عليه. من الجائز بالطبع أن تتصرف الدولة الفلسطينية الجديدة كدولة، فتطلب من تشاء من الإسرائيليين أمام المحكمة الجنائية الدولية، أو تطالب بتطبيق مواد الباب السابع من ميثاق الأمم المتحدة على إسرائيل، ولكن مصير ذلك على ضوء توازنات القوى الحالية لن يزيد عن بعض الضوضاء التي يذهب بعد ذلك الناس كل إلى حال سبيله.

الطريف في الموضوع، وإذا كانت المسألة اعترافا معنويا بالحق الفلسطيني، فإن الأمم المتحدة اعترفت بالدولة الفلسطينية بالفعل عندما صدر قرار التقسيم رقم 181 الذي قسم فلسطين إلى دولة لليهود، ودولة أخرى للفلسطينيين. ومرة أخرى فإن إعطاء صفة المراقب لمنظمة التحرير الفلسطينية، وإعطاء الفرصة لممثلي الشعب الفلسطيني لكي يلقوا الخطابات من على منبر الأمم المتحدة كان استنادا إلى ذات الحق الفلسطيني في الدولة. ومرة ثالثة فإن الرئيس ياسر عرفات نفسه أعلن عام 1988 قيام الدولة الفلسطينية، واستنادا إلى هذا القرار رفعت دول كثيرة التمثيل الفلسطيني في أراضي إلى درجة سفير يعامل معاملة السفراء الآخرين. ولا زلت أذكر كيف أن الرئيس ياسر عرفات - رحمه الله - تباهى في برنامج تلفزيوني كنت أقدمه بأن عدد الدول التي تعترف بالدولة الفلسطينية، وفيها تمثيل فلسطيني على مستوى السفراء يزيد عن ذلك الذي لدى إسرائيل.

الأكثر طرافة في الأمر، أن بعضا من الإسرائيليين، طرحوا أن تصوت إسرائيل لصالح القرار الفلسطيني طالما أن الحكومة الإسرائيلية تعترف بحل الدولتين، ولكن بعد اعتراف منظمة التحرير والسلطة الوطنية الفلسطينية بالطبيعة اليهودية للدولة الإسرائيلية. ومرة أخرى فإن قرار التقسيم أعطى دولة لليهود، اللهم إلا إذا كان هناك فارق كبير بين دولة «يهودية» و«دولة لليهود» وهو فارق يعرف كل من زار إسرائيل أنه موضوع نقاش حاد بين الإسرائيليين أنفسهم لم ينجحوا في وضع نهاية له إلا بعد توافق غريب على عرقلة الطلب الفلسطيني وكفى.

المهم أن الموضوع ربما كان له قدر ما من الأهمية عندما وجد الفلسطينيون أن طريق المفاوضات قد صار مسدودا، ومن ثم لم يبق إلا إثارة زوبعة دولية كبرى. ولا أدري شخصيا كيف يعتز الفلسطينيون إلى هذا الحد بالمفاوضات بينما كانت نتائجها مستحيلة داخل صفوفهم ذاتها. ولكنهم فعلوها على أية حال، والغريب أن نتنياهو ومن ورائه إسرائيليون كثر اكتشفوا أيضا فضيلة المفاوضات بشرط أن تكون بلا شروط مسبقة، أي أن يدخل الفلسطينيون إلى مفاوضات مفتوحة بينما المستوطنات الإسرائيلية تبتلع الأرض التي يجري التفاوض عليها.

وهكذا يبدو الأمر وكأنه لا يزيد عن مناورات سياسية ودبلوماسية تكفي وزيادة لتحقيق الحد الأقصى من الالتهاب للشارع العربي، مع جرعة زائدة من الخوف للشارع الإسرائيلي، ومن ثم لا تصبح هناك فائدة في المفاوضات، ولا في قرارات إضافية بإعلان الدولة الفلسطينية. الغريب أن الثورات العربية وجدت في الموضوع ضالتها حيثما تعثرت مسيرتها الذاتية سواء في أن تمضي المرحلة الانتقالية بسلام، أو تتحقق أهداف الثورة التي لم تتحقق حتى الآن. وهكذا تقوم القضية الفلسطينية بدورها التاريخي حينما أعطت كل زعيم عربي الفرصة لكي يفعل ما يشاء بشعبه الأبي، طالما أنه «مدافع جسور» عن القضية المركزية. وربما كان الجديد في الأمر أن الخلاص الذي تقدمه القضية للزعماء العرب باتت تقدمه لزعماء الشرق الأوسط أيضا؛ فوجد أحمدي نجاد الإيراني ضالته في «القضية»، ومؤخرا انضم رجب طيب أردوغان التركي إلى ركب الدفاع عن فلسطين حتى بات الأمر محرجا لحكومات عربية شتى باتت كلها تريد اعتذارا من نوع أو آخر من الدولة الصهيونية بينما القضية الأصلية باقية على حالها.

المهم أن الثوار، أو بعضهم على الأقل، وجدوا في الأمر فرصة، فثوار مصر رفعوا صورة عبد الناصر أمام السفارة الإسرائيلية لكي يعلموها الدرس التاريخي أن ما أخذ بالقوة لا يسترد بغير القوة؛ حتى ولو جرى الاحتلال الإسرائيلي لسيناء على يديه مرتين. وفي سوريا كان السلاح أمضى في معايرة نظام بشار الأسد الذي يوجد ألف سبب للثورة عليه، إلا أن السبب المفضل بات أنه لم يطلق رصاصة واحدة على إسرائيل بينما يطلقها في زخات كثيرة وبكرم بالغ على السوريين حيثما كانوا. ولم تبخل جماعة الممانعة والمقاومة هي الأخرى من الانضمام إلى الصف حيث باتت الثورات جزءا من مؤامرة كونية ضد الممانعين والمقاومين والذين يقولون لا للصهيونية والإمبريالية. وهكذا تكتمل الدائرة ما بين الثوار الجدد والثوار السابقين، وتبقى القضية كما كانت دائما مركزية ومحورية ولا يصحو ولا ينام عربي حتى يجد حلا في مجلس الأمن أو في الجمعية العامة أو أي من المحافل الدولية التي طحنت القضية بقراراتها الكثيرة والمتنوعة. ومع ذلك فنحن في انتظار قرار جديد.