عسكر وحرامية

TT

الواو في العنوان ليست واو العطف، فقد تراجعت قيم العطف في مصر، ولكن اللعبة القديمة التي كان يلعبها الأطفال في شوارع المحروسة «عسكر وحرامية» والتي تغنى بها محمد منير في مسرحية ذات مغزى بعنوان «الملك هو الملك»، لها مدلولات على مستويات متعددة وفيها توصيف للحال؛ على المستوى السياسي، على مستوى سرقة الثورة من حرامية من نوع آخر، وعلى مستوى الجريمة في الشارع، وعلى مستوى الحرامية الكبار من أركان النظام القديم. «عسكر وحرامية» لعبة، ولكن الأمور في مصر اليوم «مش لعبة».

الواو ليست واو العطف، فالعسكر من جهة والحرامية من جهة أخرى، وقد نجح العسكر في تجنيب البلاد حكم الحرامية الكبار الذين سرقوا أراضي الوطن و«سقّعوها» من أجل أن يزيد السعر، وزاد سعر الأراضي وأغاني اللصوص وبخسائر ثمن الوطن. المشكلة لم تعد في الحرامية الكبار الذين يقفون خلف القضبان في المحكمة في انتظار حكم قضاء عادل. التحدي الذي يواجه العسكر اليوم هم صغار الحرامية لا كبارهم. «عسكر وحرامية» لعبة وأصبح الوطن كله لعبة. وأسمع صوت منير يصدح «طفِّي النور يا بهية»، ولكن نور الثورة وجذوتها لن تنطفئ، أيا كانت أعداد الحرامية وقوتهم.

عندما تسلق الشاب المصري أحمد الشحات عمارة مكونة من أربعة عشر طابقا على المواسير وسماه البعض «سبايدرمان مصر» اختلط الخط الفاصل بين العسكر والحرامية. تسلق المواسير وصولا إلى الدور الرابع عشر ليس هواية لكل المصريين وليس هواية للثوار الذين كانوا على الأرض في ميدان التحرير، ثوار لا يجيدون لا تسلق المواسير ولا التسلق السياسي ولا الاجتماعي، ثاروا جميعا ضد ذهنية التسلق التي أصبحت السمة الرئيسية للنظام البائد في آخر أيامه. لدينا نوعيات من المصريين القادرين على تسلق المواسير: الحرامية بحكم المهنة سواء كانوا حرامية كبارا أو حرامية حبال الغسيل، أما النوعية الثانية من أبناء الوطن القادرين على التسلق بحكم التدريب فهم العسكر ممن تدربوا على المهمات الخاصة، ولا ندري من تسلق على مناشير العمارة، العسكر أم الحرامية، وماذا كان الهدف، فلم يكن هناك شيء يُسرَق. ومع ذلك فالواو ليست واو العطف، والسرقة أمر غير معطوف على ما قبله فهو عمل مستقل بذاته.

وبعده طفّت بهية النور «طفِّي النور يا بهية كله عساكر دورية.. وجوزك راجع من سوقه.. راكبه الهم وبيسوقه، نطوا العسكر من فوقه.. دورية ورا دورية.. وطفِّي النور يا بهية».

عندما قامت انتفاضة الشباب في 1977 ضد نظام السادات سماها السادات، وهو من العسكر، «انتفاضة حرامية». وهاهم من سماهم السادات بقادة انتفاضة الحرامية يتصدرون المشهد كمرشحي رئاسة محتملين. مات السادات «وشبع موت»، ولكن أبطال انتفاضة 77 لم يموتوا، بل يتصدرون المشهد، عبد المنعم أبو الفتوح الذي واجه السادات بجرأة وقال له السادات يومها «اقعد يا ولد»، وحمدين صباحي، وغيرهما من قيادات الحركة الطلابية في السبعينات من القرن الماضي، وصفهم السادات، وهو من العسكر، بوصف «انتفاضة الحرامية» وهم طلاب في ريعان الشباب وفي رومانسية الثورة، ولكن من وصفوا بحرامية الأمس هم شرفاء اليوم، وهم ربما أكثر المرشحين قبولا، ولكن بقيت معادلة العسكر والحرامية في لعبة الأطفال الصغار هي الحاكمة للمشهد المصري ولعبته السياسية والتي بدا أنها، في استهدافها ومراعاتها في اتخاذ القرارات السياسية، لا تختلف كثيرا عن لعبة الأطفال ذاتها، إذ ينصب العسكر لمن يظنونهم بالكراهية كمائن توقع بهم وآخرها تفعيل قانون الطوارئ ضد الحرامية.

«خالك راجع من مكة.. طلعلوا العفاريت في السكة.. ألف.. ولاد الجنية.. وطفِّي النور يا بهية»، ويبدو أن الأنوار بدأت تنطفئ بعد قانون الطوارئ.

الحرامية أيضا هم حرامية الثورة، الذين سرقوا الثورة من شباب نقي وبريء أراد لوطنه أن يأخذ مكانه بين الأمم المتحضرة وما إن أنجز ثورته وتنحى مبارك حتى رأى أمام عينيه أن الحرامية يسرقون الثورة ولكن تحت عيون العسكر هذه المرة. الواو واو العطف ولكن لم يتعاطف الحرامية في لحظة نادرة من الثورة ويتطهروا وينضموا إلى الثورة، بل وقفوا في الطرقات يحملون الجنازير والأسلحة البيضاء والآلية، يميلون الثوار ويذهبون الثورة. الواو ليست واو عطف في موضوع الثوار والعسكر والحرامية.

ذات اللعبة الطفولية يلعبها الحرامية مع العسكر على مستويات متعددة، المحاكمات مستمرة وكان آخرها وقوف صفوت الشريف في القفص بالأمس، ومن قبله وقف حبيب العادلي وعساكره وهم عسكر من نوع مختلف. البلطجية في الطرقات، وظهرت أسلحة الـ«آر بي جي» القادمة من الحدود الشرقية عبر سيناء والقادمة من الغرب من تخوم الثورة الليبية، ظهرت هذه الأسلحة في شوارع القاهرة، ولكن اللعبة ما زالت بين العسكر والحرامية جائزتها هي سرقة الثورة. ولكن الثورة باقية، وجذوتها تملأ الميادين المصرية رغم إرهاب قانون الطوارئ ورغم إرهاب الحرامية.

الواو ليست واو عطف، بالتأكيد سيأتي اليوم الذي يصدح فيه صوت الثورة وصوت محمد منير مرة أخرى طالبا من بهية أن تشعل الأنوار «قيدي النور يا بهية.. كل العسكر...... قيدي النور قيدي النور.. قيدي النور». وبهذا المشهد تكون اللعبة قد انتهت، ولن يكون الملك هو الملك، فالثورة هي الملك.