ثورة «الألتراس»

TT

أعلنت حركة «6 أبريل» - الشبابية بمصر - عن افتتاح فرع لها في دولة الإمارات العربية المتحدة، وجاء على لسان أحد القيادات أن الحركة «تريد إشراك المصريين المقيمين بالخارج»، لكن بعد مرور يومين أعلنت الحركة حل الفرع الذي يترأسه إبراهيم الشيخ.

المشهد سريالي؛ حيث تسعى مجموعة سياسية ناشئة إلى افتتاح فروع لها في دول الجوار العربي، في حين أنها لا تملك تمثيلا شرعيا نيابيا في بلدها الأصلي. ماذا يعني ذلك؟ لا شك أن مصر تمر بمرحلة فوضى لا ضابط لها؛ فالعسكريون الذين أبعدوا مبارك بالقوة لم يصارحوا بقية مواطنيهم بحقيقة ما حدث في تلك الليلة، والنتيجة أدت إلى أن ادعت كل المكونات الصغيرة والكبيرة دورا لها في إسقاط النظام السابق، وبينما كان المجلس العسكري يدير شؤون الدولة فعليا كان الجميع يتغنى بثورة اقتلعت النظام في حين أن ما جرى لا يعدو مجرد انقلاب عسكري على القائد الأعلى للقوات المسلحة وأركان حكومته. صحيح أن الكثيرين ممن تظاهروا قد دعموا ما حدث، لكن الجمع المتتالية - التي اتخذت أسماء مثل «تصحيح المسار» وغيرها - أرادت كلها فرض التغيير بوصفه «ثورة» حقيقية في داخل الدولة لا مجرد انقلاب، أي تغيير في هوية وشكل الدولة (دستوريا وتشريعيا) وليس مجرد التغيير في شخوص أصحاب السلطة التنفيذية. المجلس العسكري بالغ في استخدام مفردة «الثورة» والترويج لسياساته بوصفها خطوات لاستكمال الثورة ضد مبارك ورجاله، لكن ما شهدناه خلال الشهور الماضية يكشف عن صراع ما بين المكونات السياسية الصغيرة والكبيرة التي تريد «ثورة» شاملة تقلب نظام الحكم في مصر، وبين المجلس العسكري الذي قبل بالاستغناء عن مبارك ورجاله، لكنه لن يقبل بإقصائه كلاعب رئيسي في السياسة المصرية.

المجلس العسكري هو الشرعية الحاكمة في مصر، وحادثة الهجوم على السفارة الإسرائيلية قد كشفت للجميع عن أن المجلس هو المسؤول عن سيادة الدولة لا الجماهير الغاضبة أو ألتراس الأندية الكروية الشهيرة التي عبأت ميدان التحرير ثم ذهبت لتحاصر مباني السفارات، ومديرية أمن الجيزة. لقد أعلن المجلس العسكري تمديد العمل بقانون الطوارئ، بل وقام بتوسيع صلاحيات القانون الذي بات يشمل الآن اللصوص وقطاع الطرق والمخربين والمحرضين على العنف والفوضى. هناك حاجة بالتأكيد إلى استعادة النظام في بلد بات يعاني فقدان الاتجاه، وانعداما للإدارة الفاعلة، وشيوعا للآراء «الثورية» الراديكالية. الآن تعاني مصر تراجعا اقتصاديا حساسا يوشك أن يعصف بمقدراتها المالية، بينما تنشط المجموعات المسيسة في ميدان التحرير لتعكس صورة سوداوية عن الأوضاع في بلد ثلاثة أرباعه يتوق إلى الاستقرار، واستعادة النشاط الاقتصادي واستتباب الأمن. يتحمل المجلس العسكري المسؤولية عما يحدث؛ فلولا مجاراة المجلس للناشطين الشباب، ومحاولته الظهور بمظهر حامي الثورة، لما كان لزاما عليه أن يواجه جمعة «لا للطوارئ»، التي تسعى لانتزاع الثورة، كما يقول منظموها، من وصاية المجلس العسكري.

هذه الحالة المضطربة تنذر باستمرار عدم الاستقرار في مصر؛ ففي الوقت الذي تتراجع فيه مداخيل الحكومة المصرية - وفقا لميزانية 2011 - 2012 - واضطرار البنك المركزي إلى الاستدانة من دول الخليج، وطلب الإعانات من الخارج، فإن الوضع المضطرب ينذر بشلل أكبر، خصوصا إذا استمر ميدان التحرير ممتلئا كل يوم جمعة، فمن ذا الذي يريد الارتحال لمصر من أجل السياحة أو الاستثمار وهو يشاهد مجاميع من الناس تشتبك مع الشرطة، وتقوم بإشعال النار في الممتلكات الحكومية والخاصة؟

مشكلة السياسية المصرية - وهو أمر يمكن تعميمه على بقية البلدان العربية - هي أنها لا تسمي الأشياء بأسمائها، ولا تعالج الأزمات والمشكلات بالمصارحة. ماذا يمنع أن يعترف المجلس العسكري بأنه لولا تدخله في إقالة الرئيس مبارك لما استقال من ذاته، وأن مصر إذا لم تستعد استقرارها الأمني فإن ذلك سيعطل عجلة الاقتصاد وسيدفع بالحكومة المصرية إلى طلب النجدة والإنقاذ من الخارج؟ ما الذي يمنع المجلس العسكري من أن يقول إن التحرش بالإسرائيليين، أو التهديد بإلغاء اتفاقية كامب ديفيد يمكن أن يجعل مصر عرضة للعقوبات الاقتصادية، والحصار الدولي، وإنه من الممكن أن تفقد مصر مليارات الدولارات من الدعم المالي المقدم من أميركا والدول الأوروبية، وخسارة امتيازات التصدير التجارية؟

بعض ثوار ميدان التحرير ليسوا معنيين بالصالح العام في مصر، أو ربما يجهلون تلك المصالح، بل كل ما يهمهم هو استدامة الوضع الثوري؛ فبعد أن كان مطلبهم رحيل مبارك هاهم يركبون الموجة الثورية ليوجهوها نحو الصراع العربي - الإسرائيلي تارة، ومصادمة دول الجوار تارة أخرى، ولن يتوقفوا حتى يستطيعوا الوثوب على السلطة بطرق غير ديمقراطية أو مدنية.

يكفي أن يقال: إن هذه المجموعات تشكك في كل طرح إصلاحي، أو مشروع انتقالي، وتتصدر المشهد السياسي بدعوى أحقية الشباب بالتغيير، وضرورة أن يجربوا حكم مصر - كما تقول حركة «6 أبريل» - فإما أن ينجحوا وإما أن تستفيد مصر من تجربتهم في حالة متطرفة من العمى «الثورجي»! غني عن القول إن هذا المنطق الدوغمائي لا ينتج إلا سياسات سلطوية، وسيكون من المؤسف أن تنتقل مصر من تجربة 1952 الشبابية - القومية (الفاشلة) إلى تجربة 2011 الشبابية - الثورية التي ربما تصير أكثر فشلا لاستغلالها للشعارات المدنية، وأن تستمر مصر في تجرع الخطاب المؤدلج والمتعالي ذاته، الذي أضلها الطريق لأكثر من 7 عقود.

الذي يدعي الديمقراطية والمدنية لا يشعل إطارات السيارات، أو يحتل الساحات العامة ليثير الإضراب بشكل مستدام حتى يملي شروطه. الحلول الديمقراطية والمدنية تأتي من الحكومات والمجالس المنتخبة شرعيا، لا الشباب الذي يعتلي منصات الفضائيات وصهوات المواقع الاجتماعية.. لقد اتهم المجلس العسكري بعض المتظاهرين بالتخريب، وهذا صحيح، وبادله المتظاهرون بالتشكيك في نواياه، وهذا أيضا صحيح، فإذا كان ثوريا فلماذا لا يستجيب إلى عطش الثوار لإجراء تغييرات راديكالية تبدأ من موازنة القوات المسلحة وتنتهي بالتحقيق مع ضباط الشرطة العسكرية بحسب مطالب الشباب. في الوقت ذاته يقبع أركان النظام السابق في السجن، بينما ملايين الفقراء المصريين ممن لم يكونوا مشمولين برعاية النظم السابقة من عبد الناصر حتى مبارك ويعيشون على هوامش الرخاء الاقتصادي قد أصبحوا جوعى هائمين في الشوارع بعد أن تقلصت مداخيل الطبقات العاملة، وتراجعت واردات السياحة والحوالات الخارجية. فماذا ينتظر الفقراء والمهمشون بالملايين في مصر من شباب يرفعون شعارات ثورية تطالب بكل شيء، لكنها لا تقدم أي حلول عملية - أو واعية - فضلا عن أن تستوعب مشكلات مصر وحدود قصورها الاقتصادي والعسكري كدولة متعثرة لديها التزامات دولية؟

كل شيء بالنسبة للثوري سهل، فالحل هو في إزالة رأس النظام، وأركان حكمه، وتغيير سياسات الدولة لتتماهى مع تصوراته الراديكالية عن العالم، لكن ما لا يدركه الشاب المتحمس هو أنه يضع مصير بلده، ومعاشات الملايين من مواطنيه، تحت رحمة نزقه الثوري. ألم يتعلم شباب التحرير أي شيء من التجارب التي سبقتهم؟ الديمقراطية لا تفرض بالقوة، بل تكتسب بالتراضي بين المواطنين في البلد الواحد. يقول توفيق الحكيم: «ماذا سيقول التاريخ في هذا الذي جرى في عهد هذه الثورة، وهو الذي قال ما قال عن عهد الخديو إسماعيل؛ لأنه استدان بضع عشرات من الملايين أنفقها في بناء قصور بقيت لنا على كل حال الآن، كمنشآت استخدمتها المصالح والوزارات على مدى سنوات، ثم في بناء أشياء أخرى مثل دار الأوبرا التي انتفعنا بها كمصدر إشعاع فني وأدبي على مدى أجيال، وفي غير ذلك مما سمي في وقت ما نزقا، وما هو، فيما يمكن أن يقال، إلا بعض مظاهر الحضارة العصرية التي أراد لمصر أن تحلق بها.. وإذا كان التاريخ قد أدانه، فهل نطمع أن يبرئنا نحن؟» (عودة الوعي، 60، 1972). لقد تذرع شباب التغيير بشعارات الديمقراطية وحقوق الإنسان، ولكن ما شهدناه هو تبرير الفوضى في مواجهة السلطة أيا من كان ممثلها، مبارك أو المجلس العسكري، وفي هذه الحالة باتت الثورة تتحول إلى أيدي الألتراس، بحيث باتت «الثورة» ثورة على مصر نفسها كدولة. الثورة ليست بالشعارات، والتاريخ لن يبرئ أحدا.