فاجعة بالمر.. أين أخطأنا؟

TT

أول ما يتبادر إلى الذهن ونحن نتابع تفاصيل عملية التسريبات الأخيرة لتقرير لجنة بالمر الأممية، حول العملية الإسرائيلية ضد أسطول الحرية، هو أن يكون كل ذلك جزءا من خطة مدروسة متعمدة تهدف لامتصاص النقمة التركية، وإعطاء قيادات العدالة والتنمية الفرص والوقت الكافي للاستعداد للصدمة المقبلة.

قلنا إنها قرصنة وإرهاب ومجزرة وهجوم همجي في عرض البحر، وتقرير بالمر يقول إنها عملية مشروعة، وإن الحصار على غزة قانوني، وإن هيئة الإغاثة التركية التي نظمت الرحلة لعبت دورا في التحريض والاستفزاز وإيصال الأمور إلى ما هي عليه. أنقرة التي كانت قد وضعت مسألة تشكيل لجنة تحقيق دولية في مقدمة مطالبها بعد العدوان الإسرائيلي على سفنها ومواطنيها، تقول اليوم إنها تحفظت على الكثير من مواد هذا التقرير المسيس، وإنها لن توقعه لأنه غير متوازن وتجاوز صلاحياته، وهو في حكم الباطل. لو قيل لنا إن إسرائيل هي التي تنتقد وتتحفظ، كما حدث مع غولدستون في الحرب على غزة، لقلنا إن الدبلوماسية التركية هي التي انتصرت ونجحت في محاصرة نتنياهو والوصول إلى ما تريد، لكن ما حدث هو العكس. ممثل تركيا في اللجنة، الدبلوماسي المخضرم صانبرك، يقول بعد التسريبات إن التقرير غير ملزم، وإنه غير عادل، وإنه لم يوقعه، وذلك بعد أشهر طويلة من مشاركته في أعمال اللجنة، ألا يشكل ذلك خيبة أمل لأحد ما في تركيا؟ نتيجة موجعة للجميع، لكن الموجع أكثر أمام هذه الفاجعة أن يتحرك البعض من المقربين للحكومة العدالة والتنمية في الإعلام ومراكز الأبحاث، لتحليل وتفسير ما يجري على طريقته، وتصوير المشهد على أنه انتصار للدبلوماسية التركية، وأن واشنطن ستتخلى في النهاية عن حكومة نتنياهو، وأن العزلة الإسرائيلية ستزيد، وأن إسرائيل لن تستطيع الصمود أمام التصعيد التركي الجديد ضدها، وخسارة حليف استراتيجي كبير مثل تركيا.

تركيا في مطالبها كانت تتحدث عن ضرورة تحميل إسرائيل كل المسؤولية القانونية والسياسية والأخلاقية عن فعلتها هذه في أعالي البحار، ورفع الحصار عن غزة، لكن تقرير بالمر يقول لنا الكثير مما لم يعجبنا، ويتناقض مع ما دافعنا عنه مطولا ضمن استراتيجية محاصرة إسرائيل وإلزامها بالاعتذار والتعويضات.

قد يكون الخطأ الأول الذي ارتكبناه هو التلويح الدائم بورقة قطع العلاقات الدبلوماسية والأمنية والتجارية مع إسرائيل، وتكرار مقولة العزل، وربما هذا ما دفع الكثير من العواصم والتكتلات للوقوف إلى جانب إسرائيل، والدفاع عنها لقطع الطريق على المخطط التركي الذي لم يحقق الكثير من أهدافه. لماذا نتحدث الآن عن تخفيض العلاقات الدبلوماسية المخفضة أصلا، وطرد السفير المنتهية فترة خدمته ولم يتم تعيين آخر بعد؟ هل سيكون هناك قرار قطيعة كاملة مع إسرائيل، أم أننا سنبقي على شعرة معاوية في علاقاتنا معها، وهو أكثر ما يشجعها ويطمئنها على أن أنقرة لن تتخلى عنها بمثل هذه السهولة؟

أنقرة تريد محاصرة حكومة نتنياهو وحشرها وإلزامها بالتراجع، لكن الإسرائيليين يقولون إن الاعتذار لن يساعد على رأب الصدع، وإن تركيا هي التي تلحق الضرر بنفسها وتواجه اليوم ورطة الانعزال، وضيق رقعة التحرك، وتقلص الفرص، وارتكاب الخطأ الأكبر؛ القطيعة مع تل أبيب.

كنا نريد قطع الطريق إلى التقرير الإسرائيلي الداخلي حول العملية، فوجدنا أنفسنا وجها لوجه أمام تقرير دولي يبرر لها فعلتها، وأن «إسرائيل فخورة بجنودها وما فعلوه».

الأصعب هو أن يقف داني دانون، عضو الكنيست عن الليكود، ليطالب وزيرة الخارجية الأميركية كلينتون بإدانة تركيا «الدولة الراعية للإرهاب».

كان علينا منذ البداية، وعلى ضوء الموقف الأميركي من تقرير لجنة تيركل الإسرائيلية، وفتح الأبواب على وسعها أمام نتنياهو - وهو الذي كرر عشرات المرات رفض الاعتذار في أهم مراكز القرار الأميركي - أن نعرف أن واشنطن لن تتخلى بمثل هذه السهولة عن حليفها الإقليمي الأول، وأنها عندما تجبر على الاختيار بين أنقرة وتل أبيب، فهي ستختار الثانية من دون تردد، وهذا ما لم تقتنع به حكومة العدالة وتسلم بحقيقته.

إسرائيل نجحت في كسب واشنطن إلى جانبها، ليس فقط من أجل الضغط على أنقرة وإلزامها بعدم التصعيد والتفجير، بل لتبني وجهة النظر الإسرائيلية والدفاع عنها.

نحن نقول إن أميركا هي الشريك في إيصال الأمور إلى ما هي عليه اليوم من تصعيد وعربدة إسرائيلية، وواشنطن تقول لنا إن الاتحاد الأوروبي هو المسؤول، لأنه يعرقل طلب العضوية التركية منذ عقود، وأنه لو تحقق لتركيا ما تريد لما وقعت الكثير من هذه الأزمات.

أخطأنا ربما في التراجع عن قرار المشاركة في «أسطول الحرية 2» إرضاء للغرب، وعلى منح إسرائيل فرصة أخرى للمضي في عنادها. أخطأنا أيضا في إعطاء تل أبيب المزيد من الوقت والفرص للملمة نفسها، من خلال الرهان على تحرك إسرائيلي داخلي يوقف حكومة نتنياهو عند حدها.

أخطأنا كذلك بالتباطؤ في موضوع لعب ورقة تقرير لجنة حقوق الإنسان الدولي، وحمله إلى الجمعية العامة للأمم المتحدة، والتردد في تحريك القضاء التركي لمحاكمة الإسرائيليين الذين قتلوا المدنيين الأتراك، واحتجزوا السفن التركية، وأسروا ركابها.

لم نصل إلى غاية تحويل الأزمة من مواجهة تركية - إسرائيلية إلى إسرائيلية - دولية.

البعض يقول لنا اليوم إن توقيت الإعلان عن نشر المنظومة الأطلسية الجديدة فوق الأراضي التركية ضمانة أخرى قدمتها أنقرة لتل أبيب، بأن أمنها المضمون أطلسيا هو فوق أمن الجميع.

لماذا يكون البديل الآن التوجه إلى محكمة العدل الدولية التي نعرف أكثر من غيرنا كيف تعاملت إسرائيل مع قرارها الأخير حول الجدار العازل.

رددناها أكثر من مرة، أن الغيوم الداكنة التي حملها تقرير تيركل ستتحول إلى أمطار غزيرة ورياح وعواصف مع تقرير بالمر، ومع ذلك قررنا الانتظار.

أما أن يغير أعوان ومستشارو أردوغان وداود أوغلو طريقة قراءة المسائل وطرح الخيارات والبدائل، وأما أن تتحرك قيادات العدالة والتنمية لتغيير طاقم العمل هذا، فنحن لم نحقق ما نريد، ولا بد لأحد ما أن يدفع الثمن. التقرير قد يعطي لحكومة العدالة والتنمية فرصة تاريخية للتشجع نحو إطلاق مراجعة شاملة في علاقاتها بإسرائيل، ولتكن البداية مع قرار إعادة جائزة الشجاعة التي قدمت لأردوغان قبل 6 أعوام باسم اللوبي الإسرائيلي في الولايات المتحدة.