العراق والسير الحثيث للخلف

TT

كان يتحضر ويحشد من أجل مظاهرة لكنها تحولت إلى جنازة، جنازته..

لم ينتبه كثيرون ربما إلى ما حل بالصحافي والمسرحي والناشط العراقي هادي المهدي، الذي اغتيل برصاصتين من مسدس كاتم للصوت في منزله قبيل ساعات من مشاركته في مظاهرة احتجاجية نشط للدعوة لها.

في منزله ومن دون كثير جلبة, عاجله مجهولون برصاصتين في الرأس.

إنه القتل البارد الصامت، الذي شرع يشيع في العراق منذ عامين ويخيف أكثر ما يخيف الناشطين في الحقل العام والنخب الثقافية والعلمية في البلاد..

لكن لماذا يستهدف هؤلاء؟ ولماذا اغتيل المهدي الذي كان من أنشط محركي المظاهرات التي جرت في العراق احتجاجا على التسلط والفساد وعلى سطوة الأحزاب الدينية. الرجل، وبحسب صفحته على «فيس بوك» وبحسب شهادات من أصدقاء ومقربين، تلقى تهديدات عدة بالقتل قبيل مقتله بساعات، وهو تعرض للحبس والضرب والصعق بالكهرباء حين اعتقلته السلطات العراقية خلال المظاهرات التي شارك فيها قبل أسابيع وحذرته من تكرارها.

إنها سلطة العراق الجديدة التي قمعت هؤلاء المتظاهرين وقتلت بعضهم وحبست المهدي وانتقدته مرارا على صراحة برنامجه الإذاعي كما فعلت مع عشرات غيره، علما بأن الدستور العراقي يقر بحرية التعبير، وعلما بأن قادة العراق الجدد أطنبوا آذاننا بخطبهم المنتقدة للماضي التعسفي لعراق البعث وهذا حقيقي لكن ترداده على ألسنة هؤلاء بات مثارا للسخرية والتندر.

المقلق هو تنامي المؤشرات العراقية التي توحي بأن العراق يسير عكس تيار ربيع العرب، بل ويسرع الخطى في تثبيت عقلية بعثية دفع العراقيون أثمانا باهظة للتخلص منها، بينما الشعوب المحيطة تبذل أرواحا غالية لإسقاط الاستبداد المزمن في العقل العربي.

في العراق، السلطة تقمع مظاهرات، وهي ترى ماذا حدث ويحدث بأنظمة حاولت إسكات شعوبها فثارت ثائرتهم في تونس ومصر وليبيا واليمن وسوريا، وعلى الرغم من ذلك يجري في العراق حبس صحافيين وناشطين وقتل لنخب وإخماد مظاهرات. يجري ذلك من دون أن يتخلص العراق من إرث «القاعدة» الذي لا يزال ينثر سيارات مفخخة في البلاد.

المفجع أكثر أن العراق الرسمي قرر الانحياز للنظام في سوريا، الذي يقمع بدموية فظيعة المحتجين والمطالبين بحريتهم. هذا الانحياز ولو أنه وظف في سياق الدعم الإيراني لسوريا إلا أن وظيفته في الداخل العراقي لا تقل خطورة. أن تدعم سلطة العراق قمع وقتل المتظاهرين في سوريا هو مقدمة لما يمكن أن تقدم عليه، وهي أقدمت عليه فعلا في تعاملها مع العراقيين. قررت السلطة العراقية اليوم أن تلتحق بركب الأنظمة العربية التي عانت منها ما عانت، لا بركب الشعوب.

قمع المظاهرات واعتقال وتعذيب صحافيين وناشطين وممارسات كثيرة تحدث في العراق اليوم توحي بأن موقعا جديدا بات يتمترس فيه هذا البلد الذي كان قبل سنوات يعيش مرارة تجاه تجاهل العرب له ولمحنة أبنائه.

لا شيء يؤكد أن من اغتال المهدي تابعون للحكومة، لكن كل شيء يوحي أن هناك أرضية خصبة لذلك.

diana@ asharqalawsat.com