الهجرة وآثارها السياسية

TT

يعود كثير من التطور السياسي والفكري والديني إلى ظاهرة الهجرة في التاريخ.. يكفيني أن أشير إلى هجرة النبي صلى الله عليه وسلم للمدينة. وكان من دلالاتها أن اتخذناها أساسا للتقويم الإسلامي.

وفي كثير من «المفارق» الفكرية نجد أن الدور فيها يرتبط بهجرة مثقفين ومفكرين نقلوا آراءهم لوطنهم الجديد أو حملوا من هذا الوطن الجديد شيئا لوطنهم الأصلي.. نجد حتى الثورة الفرنسية تأثرت بما شهده روادها كفولتير وروسو من الحياة الديمقراطية في إنجلترا، وسعوا لنقل ذلك لبلدهم. ومن الملاحظ أن معظم من عملوا للديمقراطية في عالمنا العربي كانوا ممن لجأوا لأوروبا أو وجدوا فيها. وكنت آمل من المثقفين العراقيين الذين لجأوا لبريطانيا في عهد صدام حسين ثم عادوا بعد سقوطه أن يلعبوا دورهم في تطعيم العراق بما شهدوه.. لم أر من ذلك الشيء الكثير.

من حركات الهجرة التي أثرت على أميركا كان لجوء «المساوين» Levellers في القرن 17. قامت هذه الحركة على أكتاف نفر من المفكرين والمثقفين الذين ناصروا كرومويل والبرلمان في الحرب الأهلية ضد تشارلز الثاني. كانت هذه أول حركة سياسية في إنجلترا وشاركت فيها المرأة.. كانوا يجتمعون أسبوعيا في مقاهي وحانات لندن لمناقشة الأمور السياسية والاقتصادية. وكأي مثقفين، أغرقوا البلد بنتاجهم الفكري.. عرائض ومذكرات وكراسات وكتب، إلى حد اضطر الحكومة إلى منع تقديم العرائض للبرلمان، فرفعوا عريضة أخرى تندد بالقرار وعدم شرعيته. برز من دعاتهم جون للبرن صاحب كتاب «سهم ضد الطغاة والطغيان» ودخل السجن عدة مرات.

دعوا إلى إلغاء مجلس اللوردات، وتوسيع حق المواطنين في الاقتراع، والمساواة أمام القانون، وقمع الفساد، وإطلاق الحرية الدينية، ومنع الاحتكارات، وإشاعة الحرية للنشاط التجاري، واعتبار البرلمان السلطة العليا في البلاد.. بيد أن بعضهم رأوا تجاوز حتى البرلمان أمام سلطة الشعب المباشرة. صاغوا معظم هذه الأفكار في صحيفتهم «المعتدل». وكان لتنظيرهم دور مشجع كبير في تطور الاشتراكية والحركة اليسارية عموما في بريطانيا. وكثيرا ما يستشهد الكتاب بما قاله «المساوون» وسطروا في مؤلفاتهم، بيد أنهم سرعان ما اصطدموا ببطلهم كرومويل عندما بدأ بقمع الكاثوليك، وإرسال جيش لمحاربتهم في آيرلندا. اعتبروا ذلك تجاوزا على حرية العبادة فوقفوا ضده، بل وتآمروا لإسقاطه أو اغتياله كطاغية مستبد. ترتب على ذلك نزاع دموي بين الطرفين، فنكل بهم وأعدم بعض قادتهم وأخمد حركتهم كليا.

اضطر البعض منهم للنجاة من بطشه بالهجرة إلى أميركا. يرى بعض المؤرخين، أن هجرة «المساوين» إلى العالم الجديد والتبشير بأفكارهم، ساعدت على زرع بذور الديمقراطية والمساواة وحرية التجارة وليبرالية النشاط التجاري والصناعي، مما قامت عليه الحضارة الأميركية التي يعتز بها أهلها اليوم. ولما عرف عن «المساوين» من سعة الثقافة والمؤهلات والخبرات العلمية والتكنولوجية، فقد قادوا التقدم الصناعي وبناء الثروة في البلاد.