لا شبه بين مصر وتركيا.. وإلغاء كامب ديفيد سيكون مغامرة كارثية!

TT

قبل الإجراءات التي اتخذها رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان، والتي رد فيها على امتناع إسرائيل عن الاعتذار لبلده إزاء الجريمة البشعة التي ارتكبها الجيش الإسرائيلي ضد ركاب سفينة «مرمرة» التي كانت إحدى سفن أسطول «الحرية» الذي كان متوجها إلى غزة لفك الحصار عنها، فإن مسألة التخلي عن اتفاقيات كامب ديفيد وكذلك اتفاقية وادي عربة لم تطرح إطلاقا وإن أظهر ثوار ميدان التحرير في القاهرة تعاطفا مع الشعب الفلسطيني لم يرتق إلى مستوى المسائل الرئيسية التي رفعها المتظاهرون في بعض الأحيان كشعارات ثانوية إلى جانب شعارات التركيز على القضايا الداخلية.

بقي طابع ثورات الربيع العربي في تونس أو في مصر وليبيا والأردن واليمن والآن في سوريا، داخليا يركز على الحريات العامة، التغيير والإصلاح ومحاربة النساء، ولعل ما بات معروفا أنه لم يُر الثوار والمتظاهرون وهم يحرقون لا علما إسرائيليا ولا علما أميركيا، وأن هتافاتهم قد انصبت على الأوضاع الداخلية، وأن ما أثير بالنسبة لبيع الغاز المصري لإسرائيل قد أثير من قبيل البحث عما يدين الرئيس المصري السابق حسني مبارك ويثبت تورطه وتورط ابنيه وطاقم حكمه الذي استمر نحو ثلاثين عاما في الفساد والتفريط بالمقدرات المصرية.

وهذا في حقيقة الأمر لا يصيب هذه الثورات ولا يصبغ عليها لونا رماديا ولا يقلل من وطنيتها، وذلك لأن الإحساس العام في كل الدول العربية التي غشيها هذا الـ«تسونامي» ولا يزال يغشى بعضها، بأن الفساد هو سبب كل علة، وأن غياب الديمقراطية والحريات العامة وتغيب دور الإنسان العربي هو سبب كل هزائم العرب، وأن الذي انتصر في كل هذه الحروب التي احتلت فيها إسرائيل فلسطين كلها من الحبر إلى النهر واحتلت سيناء وهضبة الجولان السورية التي لا تزال محتلة، هو الإنسان الحر، وهو صناديق الاقتراع وليست الأسلحة المتطورة ولا شجاعة الجنود الإسرائيلية وضخامة الآلة العسكرية الإسرائيلية.

وهكذا فإن الذين تظاهروا في ميدان التحرير واعتصموا فيه يعرفون أن سبب هزيمة يونيو (حزيران) عام 1967، التي هي أم الهزائم، هو غياب الديمقراطية، وهو تغييب الشعب المصري، وهو الفساد ومصادرة حريات المصريين، وهو إشغال مصر والأمة العربية بمناوشات وحروب جانبية ومن بينها حرب اليمن، وهو أيضا وجود قيادات عسكرية مهترئة وغير كفوءة وغارقة في الموبقات حتى آذانها. والمؤكد أن الذين حولوا ساحات القاهرة والإسكندرية والإسماعيلية والسويس إلى ساحات تصفية حسابات مع نظام مبارك والأنظمة التي سبقته، ومن بينها نظام عبد الناصر، يعرفون أن المقاتلين المصريين لا تنقصهم الشجاعة، وإنما تنقصهم القيادة الكفوءة، وينقصهم وينقص شعبهم الحكم الرشيد والحريات العامة.

وكذلك فإن الذين يثورون الآن ويواصلون الثورة ضد نظام عائلتي الأسد ومخلوف، والذين يواجهون الدبابات بصدورهم العارية يعرفون أن سبب بقاء الجولان محتلا كل هذه السنوات الطويلة ليس عدم شجاعة الجندي والمقاتل السوري وقلة وطنيته، وإنما هذا النظام الفاسد المتسلط الذي صادر الحريات العامة وحكم بالحديد والنار، والذي ارتكب المذابح المتلاحقة على مدى سنوات حكمه، والذي غدا وراثيا، وأبشعها مذبحة حماه الشهيرة التي أسفرت عن إزهاق أرواح أكثر من أربعين ألف مواطن بريء، ولذلك فإن الثوار الذين يواصلون ثورتهم بشجاعة نادرة يركزون الآن على ضرورة كسر هذه الحلقة الحقيقية والرئيسية ليصبح بعد ذلك التحرير ممكنا في ظل نظام ديمقراطي وحريات عامة.

ولهذا قبل المطالبة بإلغاء اتفاقيات كامب ديفيد تأثرا بما فعله رجب طيب أردوغان، ردا على حلف إسرائيل ورفضها الاعتذار لتركيا إزاء جريمة «مرمرة» المعروفة، فإنه لا بد من إدراك أن هناك اختلافا كبيرا بين العلاقات التركية - الإسرائيلية والعلاقات المصرية – الإسرائيلية، ففي الحالة الأولى فإن ما قام به رئيس الوزراء التركي هو رد فعل آني غاضب من المتوقع أن ينتهي بانتهاء سببه، وهو لن يؤدي إلى الحرب والمواجهة رغم أنه تضمن تلويحا له طابع التهديد بأن قطعا بحرية تركية سوف ترافق في المرة المقبلة أسطول سلام جديد لفك الحصار الذي يفرضه الإسرائيليون على غزة.

أما بالنسبة لاتفاقية كامب ديفيد التي بات يطالب بإلغائها بعض ثوار ميدان التحرير ردا على قتل الإسرائيليين خمسة عسكريين مصريين في سيناء ضمن الأراضي المصرية، فإنه لا بد قبل المس بها - هذا إذا تولدت قناعة وطنية بالتخلص منها - من الانتقال بمصر في حالة السلام المستمرة منذ أكثر من ثلاثين عاما إلى حالة الحرب التي قبل الانتقال إليها يجب أن تكون هناك تغييرات شاملة مدروسة دراسة جيدة على صعيد القدرات العسكرية وعلى الصعيد الاقتصادي والاجتماعي. فإلغاء المعاهدات يعني الاستعداد للمواجهة الساخنة، والمواجهة الساخنة تتطلب وقتا تتم خلاله تغييرات شاملة على صعيد القوات المسلحة والاقتصاد وكل شيء.

قبل التفكير بإلغاء اتفاقية كامب ديفيد، التي كان إبرامها معركة حقيقية كانت أصعب وأعتى من المعركة العسكرية، لا بد من توقع أن يكون الرد الإسرائيلي الفوري بالسعي للعودة إلى احتلال سيناء كلها حتى قناة السويس، فإسرائيل في حقيقة الأمر بحاجة إلى مبرر كهذا المبرر لخلق واقع جديد على الأرض يمكنها من إعادة خلط الأوراق في المنطقة.. للتخلص من استحقاقات الدولة الفلسطينية المستقلة واستبدال معادلة الشرق الأوسط الحالية التي تشكل إيران وتركيا الرقمين الرئيسيين فيها بمعادلة جديدة يكون الإسرائيليون رقمها الرئيسي الثالث وكل هذا والواقع العربي في هذه الحالة المأساوية غير المسبوقة.

وهنا فإنه على الذين يتصرفون بنزق وبعاطفية وتحت ضغط نزوة اللحظة الراهنة أن يضعوا في اعتبارهم قبل المطالبة بإلغاء معاهدة كامب ديفيد كيف أن جمال عبد الناصر قد ارتكب خطأ مميتا عندما استجاب لمزايدات الشوارع ومزايدات أنظمة الكذب الثوري، وبادر إلى ذلك الإجراء الأحمق غير المدروس بسحب القوات الدولية من مضايق ذلك الإجراء الذي كانت إسرائيل في انتظاره على أحر من الجمر، حيث بدأت وعلى الفور بعملياتها العسكرية، فكانت تلك الهزيمة النكراء التي لا يزال العرب يدفعون ثمنها حتى الآن، والتي دفع الشعب المصري ثمنها لسنوات طويلة.

إنها ليس فرحة أن يطالب البعض بإلغاء معاهدة كامب ديفيد بعد كل هذه السنوات الطويلة، وهنا فإنه علينا أن نتصور عما سيكون عليه وضع مصر الآن لو أن مصير سيناء وقناة السويس بقي معلقا كمصير هضبة الجولان السورية حتى يبقى النظام السوري في عهد الأب والابن يدعي «المقاومة والممانعة» تركت منسية على مدى كل هذه السنوات ولم تطلق فيها رصاصة واحدة منذ حرب أكتوبر (تشرين الأول) عام 1973 وحتى هذه اللحظة... فهل هذا هو المطلوب؟!