الحوار الذي تنشده السلطة

TT

جاء – بالحرف - في نص إعلان دعوة «القيادة السياسية» إلى الحوار الوطني «الشامل» أنه «تمهيدا لانعقاد مؤتمر الحوار الوطني، وضمانا للحفاظ على وتيرة وتسارع الإصلاحات وفق برنامج الإصلاح الوطني الشامل الذي يقوده السيد الرئيس بشار الأسد، وبهدف تحقيق أوسع مشاركة جماهيرية حول الرؤية المستقبلية لبناء سوريا في مختلف المجالات، تنطلق الاثنين القادم، الخامس من أيلول، جلسات الحوار الوطني على مستوى المحافظات، وتستمر حتى العشرين منه، على أن تحدد اللجان التحضيرية في المحافظات التاريخ الذي تراه مناسبا لانعقاد الجلسات وصولا إلى المؤتمر الوطني المركزي»، وهذا الإعلان نشرته جميع الصحف السورية ووسائل الإعلام السورية الأخرى على مدى أيام قبل الخامس من سبتمبر (أيلول). ولم تكتف «القيادة السياسية» بتجاهل القوى المعارضة الوطنية الديمقراطية، والحراك الشعبي وعدم مشاركتها سواء في توجيه الدعوة، أو في بقية الإجراءات التنظيمية الأخرى، بل وحددت الموضوعات التي ينبغي أن يركز عليها الحوار في موضوعات ثلاثة هي: «محور الحياة السياسية والإصلاح السياسي المنشود، والمحور الاقتصادي الاجتماعي، ومحور احتياجات المحافظات». ولم يغفل الإعلان بطبيعة الحال الحديث عن تشكيل لجان تحضيرية لتنظيم وقيادة الحوار مع أنه أبقاها مجهولة القوام والأشخاص، وحدد لها آجالا زمنية تنتهي بحدود العشرين من شهر سبتمبر، على أن ترفع ما يتم التوصل إليه من مقترحات إلى جهة، بقيت مجهولة أيضا، يرجح أن تكون هي عينها القيادة السياسية التي صدر عنها إعلان الدعوة بداية. وقد حدد الإعلان الهوية السياسية لمن سوف يدعون للمشاركة في الحوار بأنهم من «أحزاب، ومستقلين، ومعارضين».

هكذا إذن وبعد أن شارفت انتفاضة الشعب السوري على توديع شهرها السادس، وبعد كل الدماء التي سالت في شوارع سوريا من جراء قمع النظام للشعب المطالب بحقوقه، وبعد سقوط آلاف الشهداء من المدنيين والعسكريين، واعتقال عشرات الآلاف من السوريين رجالا ونساء وشيوخا وأطفالا، تدعو «القيادة السياسية» للحوار «الشامل» لتحقيق الإصلاح الذي تصفه بـ«الشامل» أيضا. لن أقول إن دعوتها جاءت متأخرة، في تكرار فج صار ممقوتا لخطاب يرد على كل خطوة تخطوها السلطة، ببساطة لأنها تدرك ذلك، وهذا ما يردده كثير من السلطويين في مجالسهم الخاصة، وتوضحه طريقة دعوة المشاركين في الحوار وانتقائهم.. ما أود التعليق عليه هو الآتي:

بداية؛ يتضح أن «القيادة السياسية» التي صدرت عنها الدعوة، قد تخلت عن هيئة الحوار التي شكلتها في السابق لقيادة وإدارة الحوار ونظمت لقاء «تشاوريا» عقد في دمشق في شهر يوليو (تموز) الفائت غابت عنه المعارضة بكل أطيافها. ورغم تحفظاتنا على الإعلان الذي صدر عنه فقد تجاهلته السلطة تماما، بل حملت بعض أطراف لجنة الحوار التي شكلتها المسؤولية عن الخطاب الذي صدر عن بعض المشاركين فيه والمطالب بضرورة «تفكيك النظام الاستبدادي»، أو بسحب الخيار الأمني واللجوء إلى الحلول السياسية.

وثانيا؛ تجاهلت الدعوة وجود أزمة عميقة وشاملة تعاني منها البلاد، في تأكيد واضح على خطاب السلطة المعروف والقائل بأن سوريا تتعرض لمؤامرة خارجية شرسة، لذلك لم يكن مفاجئا أن تقترح «القيادة السياسية» صاحبة الدعوة ضرورة مناقشة كيفية «مواجهة المؤامرة الخارجية» كموضوع رئيسي من مواضيع الحوار الذي تنشده السلطة.

والمثير للضحك الساخر ثالثا؛ هو طريقة دعوة الأشخاص الذين وقع عليهم الاختيار للمشاركة في الحوار، فأغلبهم مسجلون في حزب البعث، مع ذلك لم تفرض عليهم الهوية التي سوف يشاركون من خلالها في الحوار، في تطبيق عملي لاحترام الرأي (أليس كذلك!!) فكانوا يسألون هل نسجلكم موالين أم مستقلين أم معارضين. واللافت أن أغلب من تم دعوتهم من الشخصيات الوطنية، قد رفضوا هذه الدعوة المتأخرة جدا، حسب رأيهم، من حيث المبدأ، وحتى بعض الحزبيين أو الموالين لم يرفضوا الدعوة من حيث المبدأ لكنهم أعلنوا صراحة أنهم لن يشاركوا في جلسات الحوار، ومن سوف يشارك بالحضور (لتجنب بعض الحرج) لن يشارك بالحوار، وسوف ينسحب في الوقت الذي يراه مناسبا.

ورابعا، وهذا اعتراف مني بأهمية ما جاء بورقة الدعوة، رغم تحفظي على بعض أفكارها، كان يمكن لهذه المبادرة للحوار الصادرة عن «القيادة السياسية»، أن تفتح أبواب التاريخ الإيجابي لها ولغيرها لو صدرت عنها في بداية الحراك الشعبي في شهر مارس (آذار)، حيث كنت مع كثيرين من المواطنين السوريين قد طالبنا بذلك في بيان شهير صدر بتاريخ 22/3/2011.

ما أود التأكيد عليه - وقد يكون ذلك مستهدفا من قبل السلطة، بتحميل المعارضة مسؤولية عدم المشاركة في الحوار، نظرا لأنها تدرك جيدا أن المعارضة بكل أطيافها لن تشارك في هكذا حوار - هو أنها، أي المعارضة، لم ترفض الحوار من حيث المبدأ، لكنها كانت تصر ولا تزال على أن المشاركة في أي حوار مع السلطة لا يستهدف تفكيك النظام الاستبدادي، بما يؤسس للانطلاق بعملية بناء النظام الديمقراطي البديل لن يكون مجديا. وحتى في هذه الحالة لا بد من خلق ما تسميه المعارضة بالبيئة المناسبة للحوار تقوم على أساس اعتراف السلطة بضرورة الانتقال إلى النظام الديمقراطي، وأن تتحمل المسؤولية عما تسببت فيه من معاناة للشعب السوري، خصوصا لجهة استخدام العنف ضد المتظاهرين، وهذا يكون من خلال تشكيل لجنة تحقيق ذات مصداقية للتحقيق في كل جرائم القتل والاعتداء على المدنيين والعسكريين ومحاسبة المتسببين والمسؤولين عنها، والتخلي عن الخيار الأمني نهائيا، بما يعنيه من سحب جميع القوات الأمنية والعسكرية من الشارع والسماح للناس بالتظاهر السلمي، وإطلاق سراح جميع الموقوفين السياسيين على خلفية الأحداث الأخيرة وما قبلها.

بعد القيام بهذه الخطوات وتنفيذ الإجراءات المطلوبة من السلطة، أعتقد أن المعارضة سوف تكون جاهزة لقول ما لديها مباشرة للسلطة، بعد أن قالته لها بصورة غير مباشرة مرارا (عبر وسائل الإعلام). الوقت ليس وقت عقد مؤتمرات حوار وما شابه، بل وقت اتخاذ إجراءات وتنفيذ مطالب.