العدل أساس المُلك

TT

كان مفهوم «العدالة الشاملة» غائبا عن وعي النخبة المثقفة في الدول العربية التي سيطرت عليها بعد استقلالها حكومات عسكرية آيديولوجية. وكان التأثير الآيديولوجي يعرقل نظر تلك النخبة إلى العدل باعتباره قيمة إنسانية أساسية شاملة، يقوم عليها بالحكم الرشيد وحفظ الحقوق، ويتم من خلالها الاستقرار والازدهار، ولذلك فإن من الطبيعي أن تقع كوارث سياسية واقتصادية في أنحاء من الوطن العربي، لا حل لها غير ترسيخ قيم العدالة وإرساء آلياتها. إذا كان النهوض الحضاري قلعة منيعة، فإننا لن ندخلها إلا من بوابة العدل المحكمة الأقفال، وقد أخفى مفاتيحها أصحاب الحكم العسكري وقانون الطوارئ والأحكام العرفية... إلخ.

وإذا نظرنا إلى الحكومات العسكرية المتعاقبة على بعض الدول العربية، منذ استقلالها منتصف القرن الماضي إلى اليوم، نجدها امتازت بالحكم العسكري الآيديولوجي الاستبدادي الشمولي، الذي ينطلق من وهم المعرفة أكثر من المعرفة ذاتها. ووهم المعرفة أخطر من الجهل، لأن متوهم المعرفة جاهل لا يدري بجهله. وشخصية العقيد القذافي ومهزلة كتابه الأخضر مثال حي على ذلك.

ويرتبط العدل لدى الحكومات العسكرية بمرادفات أخرى، منها العدالة الاشتراكية، وهو التفسير الآيديولوجي للعدالة بعد تفريغها من جوهرها الإنساني الشامل، فيستقيم مع هذا المصطلح، مثلا، نهب ثروات الوطن واستعباد أهله باسم تلك العدالة.

وبعد استقلال الكثير من الدول العربية، وانتهاء حقبة الانقلابات، حكمت الحكومات العسكرية شعوبها بالحديد والنار، ولعقود طويلة سفكت فيها الدماء وهتكت الأعراض، ونهبت ما استطاعت نهبه من ثروات الأوطان ومقدراتها الاقتصادية والبشرية. ولم تفلح في التقدم ولو خطوات على دروب التنمية المنتظرة، التي اكتشفت الشعوب فيما بعد أنها كانت شعارات جوفاء، وفقاعات صوتية خاوية، تستخدم للاستهلاك السياسي خارجيا، واستدرار العواطف داخليا. ولم تفعل تلك الحكومات بالثروات الاقتصادية التي وضعت عليها يدها غير كنزها في البنوك الأجنبية، بما يتوافق مع انغلاق الجيل الأول من قيادات الانقلابات العسكرية، واحتكاره للأرض وما عليها وما فيها، ووصل اقتصاد تلك الجمهوريات العربية إلى حافة الهاوية، فانتشر الفقر وزادت البطالة، بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، وسقوط الشيوعية، ما نتج عنه ولادة جيل جديد داخل تلك الأنظمة العسكرية الحاكمة مغاير لعقلية الجيل الأول، بل ويبحث بدأب عن منافذ أكثر فعالية لاستثمار الثروات المنهوبة وتشغيلها للبقاء ما أمكن في السلطة، ويسن في سبيل ذلك القوانين التي تتيح له السيطرة على ما تبقى من كيانات اقتصادية لم تنهب بعد.

وهكذا ولد في هذه الدول ما يسمى «اقتصاد السوق» ولادة مشوهة، كونه ولد بعيدا عن مفهوم «العدالة الشاملة»، التي تضمن حقوق الإنسان ومقومات السوق الحرة، من طبقة وسطى وتنافسية وتكافؤ للفرص، ورفض للاحتكار، والاحتكام إلى القانون الصريح الحارس والمعزز لتلك المقومات، فحرص الجيل الجديد على إبقاء قانون الطوارئ والأحكام العرفية الذي يشد القبضة على البلاد والعباد، مع تبنيه فكرة التحرر الاقتصادي بالحجم والشكل الذي يناسب أعماله ومصالحه، فنتج عن ذلك نماذج لجمهوريات شمولية ومستبدة، بسمات وملامح جديدة. واستمر النهب، لا باسم الاشتراكية كما كان، بل باسم الحرية الاقتصادية والسوق المفتوحة.

في مقابل ذلك، نجد أن الدول العربية التي كانت بمنأى عن مفهوم العدالة الاشتراكية والآيديولوجيات الحزبية، كالسعودية مثلا، حققت نهضة مواكبة لتطلعات شعوبها وطموحاتها، من خلال تمسكها بمفهوم العدل الشامل ما استطاعت، الذي يقوم عليه الحكم الرشيد، كما أسلفنا أعلاه. فعملت على تحقيق العدل من خلال تطبيقها لأحكام الشريعة وتأكيدها على حفظ الضرورات الخمس التي هي: الدين، والنفس، والعقل، والعرض، والمال، ومحاربة الظلم، واتخذت ذلك هدفا ساميا، وقيمة عليا، مستمدة من إقامة القسط، الذي جاءت به الشريعة الإسلامية: «لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ»، (الحديد: 25).

فلا غرابة إذن، أن تتساقط حكومات وتبقى أخرى، إذا تأملنا المسألة من خلال تحقيق مفهوم العدالة الشاملة، التي تؤكد لنا يوما بعد يوم أن «العدل أساس المُلك».

* كاتب سعودي