حقائق عن ليبيا وشعبها

TT

صلة بحديثي السابق في بناء ليبيا الجديدة أود التنبيه، في حلقة اليوم، إلى جملة حقائق يجمل بنا التذكير بها. حقائق حجبتها عنا سنوات الغربة الطويلة التي عاشتها ليبيا أو فرضت عليها، بالأحرى، إن سنوات المنفى السحيق الذي تم تهريب ليبيا إليها نيفا وأربعين سنة جعلت ما يربو على السبعين في المائة من أبناء العالم العربي لا يكادون يعرفون شيئا عن ليبيا خارجا عن صورتين، كلتاهما مشوهة؛ الأولى هي صورة ليبيا «الجماهيرية»، تلك التي سعت إلى قسر التاريخ على البدء بدءا «جديدا» يكون تاريخ وفاة الرسول الكريم نقطة الانطلاق، ومن ثم القطع مع المرجعية الإسلامية الطبيعية والمعتادة التي تجعل أول تاريخنا الإسلامي هجرة نبينا، عليه أفضل الصلوات، من مكة إلى المدينة، في مقابل ذلك يختار لشهور السنة الشمسية مسميات جديدة. كما أن مادة التاريخ، في المدرسة والجامعة، تحمل اسما جديدا هو «التفسير»، في حين أن مادة الفلسفة تغدو حاملة لنعت مخالف هو «التأويل»، والسلسلة العجائبية، المضحكة المبكية، تمتد طويلة، والمراد من ذلك كله بلورة آيديولوجية كان العقيد يستميت من أجل الانفراد بها. أما الصورة الثانية، فهي تلك التي كان الإعلام الغربي، خاصة، يروجها للبدوي الليبي ذي الشعر الكث المنفوش والسذاجة المطلقة. إنسان لا يكاد يمت إلى الأزمنة المعاصرة بصلة. صورة صادمة وكاذبة معا عند كل من عرف ظرف ورقة وطيبة الإنسان الليبي.

في الحلقة السابقة تحدثت عن الأوهام التي يلزم التخلص منها توطئة للحديث عن ليبيا العائدة من المنفى السحيق والخارجة من الليل البهيم، وسعيت إلى إبراز وهمين اثنين خاصة: وهم القبيلة والقبلية ونبهت إلى الفكرة الخبيثة التي تثوي خلف الترويج لهذا الوهم وإلى تضخيمه والنفخ فيه، وهي محاولة اجتثاث كل من الوطن والأمة الليبيين. والوهم الثاني، وهم التخويف من «التناقضات» الداخلية التي ستتفجر بعد زوال الخطر المشترك الذي كان يوحد بين الثوار القادمين من آفاق مذهبية متنافرة والصادرين عن رؤى آيديولوجية ليس يمكن لها أن تجتمع عند نظر واحد في بناء الدولة الليبية الجديدة، ومن ثم التنبؤ بالسقوط في أتون حرب أهلية لا يعلم مداها إلا الله وحده. حرب سيكولوجية شنيعة وأسلحة فتاكة لو أمكنها الفعل لا قدر الله وهي، على كل، لا تملك شيئا أمام الإرادة الصادقة في إقامة الدولة الحرة والدفاع عن الكرامة التي امتد امتهانها ردحا من الزمن غير يسير وسالت الدماء في سبيلها أنهارا. نود، قبل التذكير بالحقائق الأولية التي نرى وجوب التذكير بها، أن نتمعن في دلالة حكمة نتعلمها من الفيلسوف الفرنسي - السويسري (حتى لا نغضب أهل جنيف، موطن الرجل) جان جاك روسو، حكمة نقتبسها من رسالة شهيرة (في أصل التفاوت بين البشر) إذ يقول ما معناه: إن المستبد يسوي بين أبناء الوطن لأنه يجعلهم، جميعا، «لا شيء». ومن منطقه، ومن كتابه الأشهر «التعاقد الاجتماعي» نستخلص حكمة أخرى يؤكدها التاريخ البشري في سيره وهي أن الشعب لا يموت طالما ظل يعي نفسه أنه كذلك. والدرس المستفاد أن الطاغية قد يفلح، في زمان يطول أو يقصر حسب عوامل شتى، في بسط سيطرة تامة على الشعب الذي ينتسب إليه غير أن الشعب يظل شعبا والأمة تزداد تماسكا والتحاما لكي يكون حدث صغير كفيلا بإشعال نار الثورة وأحداث حال الانتفاض. ولا تزال الأيام تؤكد صدق هذه الفكرة.

الحقيقة الأولى هي أن الشعب الليبي يشكل وحدة إثنية ولغوية ومذهبية. ذلك أن الشعب الليبي، في سواده الأعظم وفي غالبيته الساحقة، شعب عربي لغة ومنشأ، والأمازيغ، في مناطق متفرقة من الغرب الليبي، مندمجون في النسيج العربي اندماجا عمل الدين الإسلامي على صهره في بوتقة واحدة. والدين الإسلامي هو الديانة الوحيدة الموجودة في ليبيا ولا وجود لأقليات دينية من أي نوع كانت. ثم إن الصيغة الوحيدة التي تعرف للإسلام هي الإسلام السني فلا وجود البتة لمنزع شيعي، أيا كانت تجلياته. كما أن المذهب المالكي في الفقه هو، بالنسبة للغالبية العظمى من الشعب الليبي، الصيغة الفقهية الوحيدة المعروفة. وأما من حيث العقيدة المذهبية فأهل ليبيا ينتسبون إلى المذهب الأشعري - بل يجب أن يعلم أن «العقيدة السنوسية» هي المتن العقائدي الذي يأخذ به الناس في منطقة المغرب العربي برمتها ولا تزال العقيدة السنوسية تدرس اليوم، في أوساط التعليم الديني بحسبانها الصورة المثلى للتعبير عن الاعتقاد الأشعري في منطقة المغرب العربي من موريتانيا إلى ليبيا مرورا بالمغرب والجزائر وتونس. يبقى أن نقول كلمة توضيحية عن الإباضية والاعتقاد الإباضي في ليبيا.

نقول، من جهة أولى، إحصائية إذا صح القول، إن المذهب الإباضي يعرف في ليبيا قلة من المنتسبين إليه في ليبيا فهم لا يكادون يتجاوزون منطقة جبل نفوسة في كثافة سكانية قليلة.

ونود القول، من جهة ثانية وهي عندنا الأكثر أهمية والأجدر بالتنبيه عليها، أن الفروق الفقهية المذهبية بين المذهبين المالكي والإباضي، فروق ضئيلة جدا ودقيقة جدا لا تتجاوز بعض الفروع التي لا يعتد بها، فهي فروق لا تكاد تبين وهذا مما تبين لي شخصيا من الوقوف على الكثير من الأدبيات الفقهية الإباضية وهذا الرأي مما سمعته كثيرا من الفقهاء الإباضية.

الحقيقة الثانية هي أن ليبيا وطن ينتظم في رقعة جغرافية معلومة ومحددة منذ غابر الأزمان وهي، على العموم، لا تعرف مشاكل حدودية مع جيرانها، وفوق هذه الرقعة يعيش الشعب الليبي. وإذن فثمة شعب ووطن وإرادة للعيش المشترك، إرادة لا يعني التزييف الذي خضعت له السنوات ذات العدد أنه قد تم القضاء على إرادة العيش الحر الكريم واختيار الطريق السياسي السليم منهجا وسلوكا.

الحقيقة الثالثة هي أن ليبيا عنصر فاعل في المحيط العربي في شمال أفريقيا، فهي مكون أساسي في المغرب العربي الكبير. وليبيا مكون طبيعي وفاعل في مجموعة البحر الأبيض المتوسط، وبالنظر لامتداد رقعتها الجغرافية فهي تمثل في الضفة الجنوبية منطقة شديدة الأهمية والحساسية. وبالنظر لموقعها الأفريقي فهي تشكل بالنسبة للصلات العربية الأفريقية، من جهة، وللصلات الأفريقية المتوسطية، من جهة أخرى، نقطة استراتيجية في منتهى الخطورة كان القذافي يتهدد بها إيطاليا خاصة والمجموعة الأوروبية عامة - ومن ذلك مثلا ما كان يلوح به من إغراق جزيرة لامبيدوزا بجحافل من المتسللين الأفارقة مثلما كان يشعرهم بأنه الدرع الواقي دون الهجرة السرية إلى البلاد الأوروبية ما دام في وسعه أن يفتح معبرا واسعا يصل إلى أوروبا بالنيجر وتشاد في منطقة شاسعة لا يملك أي من البلدين الأفريقيين السيطرة عليها وما خفي من التهديدات الابتزازية أدهى وأمر.

بجانب هذه الحقائق حقائق أخرى يكون في التنبه إليها وفي استحضارها استمداد القوة والأمل في بناء ليبيا الجديدة الحرة والقوية والعاقلة، ليبيا الأمل.