القليل من المشي اليومي.. والسلامة من الأمراض والوفيات

TT

عندما يقرر أحدنا أنه سيقوم بشيء يحقق له نقلة نوعية ذات تأثيرات على مستوى عال من الحسم في مستقبل حياته، فإن هذا لا يعني مطلقا أنه سيقوم بأداء أعمال على درجة عالية من المشقة والإجهاد. وفي جانب الصحة على وجه التحديد، فإن القرارات التي ستؤدي إلى حماية الجسم من الإصابة بالأمراض البالغة الأهمية، وستؤدي إلى تحسين مستوى نوعية الاستمتاع بالحياة المستقبلية والإنتاج فيها بدرجة أكبر، هي قرارات يتطلب تطبيقها جهدا ممكنا وتعبا ممتعا.

أمراض القلب على سبيل المثال، لا تزال تتربع على قمة هرم الأسباب المؤدية إلى الوفيات والإعاقات على المستوى العالمي. ولا يمكن أن يكون ثمة مبرر أقوى من هذه الحقيقة لضرورة الالتفات الجاد نحو عمل كل ما من شأنه حفظ صحته وإعطائه مزيدا من المناعة والقوة. وما تقوله لنا بصراحة الهيئات الطبية العالمية المعنية بصحة القلب، وتثبته بشكل متكرر الدراسات الطبية، وتتوالى الأدلة العملية تترا على تأكيده، مفاده أن تحريك الجسم بالرياضة وإبعاده عن نمط الكسل، شيء مفيد جدا للقلب.

والسؤال اليوم ليس: هل هذا صحيح؟ وليس: هل بالتأكيد؟ ولكن السؤال هو ما الذي يتبادر إلى ذهن أحدنا حينما يسمع طبيب القلب يقول هذا؟ الدراسات التي تناولت جانب البحث في تفاعل الناس مع هذه النصيحة الطبية البسيطة، ذات المردود الإيجابي العالي على صحة القلب، تقول لنا إن نسبة كبيرة من الناس تستصعب الأمر، ويتبادر إلى ذهنها جبال من الصعوبات لسيناريوهات ملخصها أن ذلك يتطلب خطوات تبدأ من ضرورة الذهاب أولا إلى أحد متاجر بيع الملابس الرياضية، وبذل الجهد في انتقاء أفضل أنواع الأحذية التي تريح القدمين، وانتقاء أفضل أنواع أقمشة ملابس ممارسة الرياضة، والتفكير بعد ذلك في أفضل ناد رياضي في المدينة، وما هي مميزاته وخدماته، ثم التفكير في كيفية تخصيص أوقات خلال النهار لترك المشاغل اليومية التي يرتبط كل منها بخيوط شرانقها بصفة وثيقة، وكم ستتضرر مصالح المرء وارتباطاته اليومية، وهل سينجح بالفعل في الاستمرار بتحقيق ممارسة برنامج يومي من «الرياضة» التي يتحدث طبيب القلب عن ممارستها؟ والنتيجة معروفة سلفا إذا ما ترك أحدنا لخياله عنان ليسير في طريقة التفكير هذه.

ما تطرحه أوساط طب القلب أبسط، وما سيجنيه أحدنا من ترك «حياة الكسل البدني» هو بالفعل أكبر من تصور الكثيرين. وفي عدد أول أغسطس (آب) الماضي من مجلة «الدورة الدموية» (Circulation) لرابطة القلب الأميركية، قال الباحثون من جامعة أولد دومنينين في نورفلوك بولاية فرجينيا الأميركية إن مجرد مشي المرء أو هرولته بشكل يومي هو شيء يقلل من خطورة الإصابة بأمراض القلب. الباحثون قاموا بمراجعة نتائج 9 دراسات سابقة تتبعت سؤال المشاركين فيها مدى ممارستهم للرياضة، كما تتبعت مدى إصابتهم لاحقا بأمراض شرايين القلب، بعد فترة سنوات أو عقود. ووفق الإرشادات الطبية لعام 2008 في الولايات المتحدة، النصيحة هي ممارسة 30 دقيقة من المشي السريع في 5 من أيام الأسبوع الـ7. وهذه الـ30 دقيقة يمكن تقسيمها إلى فترين، أي 15 دقيقة للفترة، أو إلى 3 فترات، أي 10 دقائق للفترة، في اليوم الواحد. وفي المحصلة، تبين للباحثين أن هذا يقلل بنسبة 14 إلى 20 في المائة من احتمالات خطورة الإصابة بأمراض القلب. وقال الدكتور جاكوب ساتلميير، الباحث الرئيسي في الدراسة: «بالنسبة للشخص الذي لا يمارس أي نوع من الرياضة، ليس المطلوب منه القيام فورا وممارسة الرياضة لمدة ساعة في كل يوم، بل مجرد ممارسته المشي السريع لمدة 10 أو 15 دقيقة في اليوم، فإن ذلك له تأثيرات تقلل من خطورة الإصابة بأمراض القلب». وأضاف في تأكيد علمي مبني على نتائج مراجعة الدراسات الطبية التي بحثت في تأثيرات الرياضة على صحة القلب بالقول: «أي إنسان يمكنه الاستفادة من الحركة البدنية وممارسة الرياضة».

وقال زميله الدكتور ديفيد سوان: «هناك زيادة مطردة في تحسين الصحة وتقليل خطورة الإصابة بأمراض القلب مع كل زيادة في ممارسة تمارين النشاط البدني».

وضمن عدد 15 أغسطس من مجلة «لانست» (The Lancet) الطبية البريطانية، قال الباحثون من تايوان إن متابعتهم لأكثر من 400 ألف شخص، ولمدة 8 سنوات، تشير إلى أن ممارسة المشي السريع لمدة 15 دقيقة في اليوم، على أقل تقدير، أي مستوى منخفض من النشاط البدني (low-activity)، يقلل من احتمالات الوفاة لأي سبب مرضى كان بنسبة 14 في المائة، وأيضا يرفع من احتمالات فرصة عيش حياة أطول (life expectancy) بمقدار 3 سنوات. وهذا تمت ملاحظته لدى الرجال والنساء على السواء. وقال الدكتور تشي – بانغ وين، الباحث الرئيسي في الدراسة والخبير في المركز القومي التايواني لبحوث الصحة: «لو تمت ممارسة القدر الأدنى من النشاط البدني اليومي، فإن الوفيات بسبب أمراض القلب ومرض السكري والإصابات السرطانية، ستنخفض. وحتى القدر الأدنى هذا سيلعب دورا محوريا في الجهود العالمية لمقاومة الأمراض غير المعدية، أي القلب والسرطان والسكري وارتفاع ضغط الدم وغيرها، كما سيقلل من الكلفة المادية للرعاية الصحية».

والحقائق الطبية هذه لا تحتاج إلى مزيد من التعليق!

* استشاري باطنية وقلب

مركز الأمير سلطان للقلب في الرياض

[email protected]