نفهم ونقرر ونبرر!

TT

المرض خادم الموت.. وإذا كان المرض يذيب الفوارق بين الناس فإن الموت يقضي عليها.. ونحن نشعر بالمرض.. أما الصحة فلا نشعر بها ولذلك نستدعي الطبيب متأخرا.. والمغفلون هم الذين يجعلون الطبيب وارثهم الوحيد.. لأن الطبيب والقاتل يكونان في زي واحد!

وإذا كان الإنسان أمام الطبيب والمحامي يجب ألا يخفي سره، فإن العظماء تركة مشاعة لكل أطبائهم وحاشيتهم.

ولكن الذي يمسك الطبيب من لسانه هو أنه أقسم على أن يكون صامتا كالقبر.. ولكن ماذا يحدث لو أن الطبيب ترك المشرط وأمسك القلم.. وكان قلمه أقسى من كل سلاح.. هل يعتبر خائنا لشرف المهنة؟ هذه قضية.

ولكن هذه القضية لا تهم الأطباء وحدهم.. وإنما تهم الأطباء والمرضى أيضا.. وليس العلاج الوحيد للمرضى هو القضاء على المرض أو فضحهم بعد موتهم.. ولكن هناك علاجا آخر: هو أن يعرف الناس كيف عاش ومات بعض العظماء وكيف أن الأمراض هي أوبئة للشعوب.. قد تقول ما علاقة أن يكون الزعيم أعرج أو بكلية واحدة بنشوب حرب؟ ولكن من المؤكد أن هناك علاقة.. وأن الزعيم إذا كان يرى بعين واحدة فشعبه يرى بعين واحدة، وشعبه حاقد على الذين لهم عينان.. وإذا كان الشعب لا يعرف ذلك.. فإن أحكاما غريبة تصدر باسمه ومن ورائه وعلى رأسه دون أن يدري!

فمنذ عشرات السنين وقع حادث طبي أدبي عالمي.. ولكن أحدا لم يشعر به، لا لأن الناس بلا شعور ولكن لأن الناس أصابتهم البلادة والملل والقرف.. هذه البلادة سببها كثرة المنبهات والمثيرات والمزعجات.. فالعناوين الكبرى في الصحف هي كرابيج سوداء وحمراء تلسع أعصابهم وتحرق معداتهم وقلوبهم.. وقد جاءت العادة اليومية أعظم وقاية لهذه المثيرات.. اعتادها الناس.. ملوها.. زهقوا منها فلم يعد أحد يشعر بها ولا بغيرها.. ولذلك إذا وقع حادث مهم.. فإن هذا الحادث يضيع في ضوضاء الحوادث والإعلانات والأغاني والموسيقى!

ونحن أمام أمراض العظماء: إما أطباء يعرفون المرض.. ولا يعرفون كيف يصفون ذلك، أو مؤرخون يعرفون كيف يصفون ذلك ويتخيلونه ولكنهم ليسوا أطباء، ولا يمكن أن نفهم عصرا من العصور إذا لم نعرف أجسام رجاله وعظمائه.. فنحن في حاجة إلى الطبيب، في حاجة إلى أن نعرف المقدمات المرضية والعلاجية للحاكم أو الزعيم.. وبذلك نفهم ونقرر ونبرر.. أو نحاول في المستقبل أن نعطي للحاكم فرصته للراحة أو للعلاج.. والحاكم عندما يصيد السمك أو يلعب الكرة ليس فارغا يضيع وقته.. وإنما هو مرهق يريح أعصابه ليصبح قادرا على الإدارة والقيادة.. والشعوب العاقلة هي التي تطلب إلى حكامها أن يلعبوا وأن يستريحوا.. فالنتيجة الناجحة تعود على الجميع!