بسبب 11 سبتمبر: الحل هو «تبديل الإسلام ذاته»!

TT

الآثار المدمرة لفعلة 11 سبتمبر 2001، أشد ضررا، وأبعد مدى مما يتصور الكثيرون.. ومن أوخم هذه الآثار «الفتنة الفكرية الكبرى» التي حاقت بأمة المسلمين، وهي «فتنة فتح ذريعة المطالبة بتبديل الإسلام نفسه». ولئن أشرنا إلى ذلك في مقال الأسبوع الماضي، فإن المقال الذي بين يدي القراء الآن مخصص كله لهذه القضية. فبسبب جريمة 11 سبتمبر، مارس الغرب - ولا يزال يمارس - ضغطا فكريا عموديا ثقيلا وهائلا على العالم الإسلامي، مدفوع إلى ذلك بفكرة يراها ضرورية - بمقياسه هو – وهي «أن الإسلام نفسه هو خميرة الإرهاب ومصدره»!، وأن الحل الوحيد والمجدي هو «تبديل بنية الإسلام ذاتها»! بنيته العقدية والتشريعية والأخلاقية. وما لم يحصل هذا التبديل، فإن الغرب سيظل مهددا دوما بـ«الإرهاب الإسلامي»..

هكذا يفكرون ويخططون.. ولقد تبدت هذه الفكرة في أشكال شتى منها - مثلا - تقرير مؤسسة «راند» الأميركية «الإسلام الديمقراطي المدني». وعنوان التقرير ليس مجرد تصوير لحالة، بل هو - في حقيقته - خطة لتغيير الإسلام أو تبديله.. فمما جاء في هذا التقرير: «وعلى هذا الأساس يقوم هذا التقرير بتحديد مكونات استراتيجية معينة، وهو مهم للعلماء وصناع القرار وكل مهتم بالإسلام.. وكما هو واضح فإن الولايات المتحدة والعالم الصناعي المتقدم يفضلان عالما إسلاميا متوافقا مع النظم الديمقراطية.. ويبدو أنه من الحكمة تشجيع عناصر من داخل المزيج الإسلامي تكون أكثر ملاءمة للديمقراطية، وصديقة للحداثة.. إن الأزمة الحالية للإسلام لها مكونان رئيسان هما: عدم قدرة الإسلام على النمو، وعدم التكيف مع الاتجاه السائد في العالم. ويمكننا تصنيف العالم الإسلامي في أربعة اتجاهات رئيسية وهي: المتشددون الذين يرفضون قيم الديمقراطية والحضارة الغربية المعاصرة.. والتقليديون الذين يريدون مجتمعا محافظا ويشككون في الحداثة والابتكار والتغيير.. والحداثيون الذين يريدون من العالم الإسلامي أن يكون جزءا من التقدم الذي يسود العالم، كما يريدون القيام بتحديث الإسلام وإدخال تعديلات في كينونته حتى يكون مواكبا للعصر.. والعلمانيون الذين يريدون من العالم الإسلامي أن يتقبل فكرة فصل الدين عن الدولة، كما هو الحال في الديمقراطيات الغربية الصناعية، مع حصر الدين في النطاق الشخصي».

وبعد هذا التصنيف يقدم التقرير تصورا أو اقتراحا عمليا لصناع القرار فيقول: «إن الحداثيين والعلمانيين هما أقرب هذه الفئات للغرب من وجهة نظر المبادئ والسياسات، ولكنهما بشكل عام في موقف أضعف من باقي المجموعات الأخرى، ومن هنا فإن المنهج التالي يكون أكثر فاعلية في الموضوع والمنهج هو دعم الحداثيين بطباعة كتاباتهم مقابل تكاليف مدعومة، وتشجيعهم على الكتابة للعديد من القراء الشباب، وطرح وجهات نظرهم في المناهج الدراسية، وجعل العلمانية والحداثة بمثابة خيار فكري وثقافي بالنسبة للشباب المسلم المتمرد».. إلى آخر المقترحات والصيغ.. ونحن لا نقر هذه التصنيفات. فالعالم الإسلامي أوفى خصوبة، وأشد تعقيدا من هذه النظرة العجلى السطحية.. ثم إن هذه التيارات المذكورة لم تفوض «راند» في التحدث باسمها، وفرض هذا اللون أو ذاك عليها، وإظهارها وكأنها «أدوات» لتنفيذ مخطط راند ومن وراء راند!!.

وقد يقال: إن تلك الصيغ المطروحة لتغيير العالم الإسلامي، تتعلق بالمسلمين البشر، ولا تتعلق بالإسلام: مصادر ومبادئ.. ونقول إن في التقرير ما يمس «بنية» الإسلام ذاتها.. لنقرأ: «تشجيع مفهوم فصل الدين عن الدولة بحيث أن ذلك لا يشكل خطرا على الدين، بل العكس من ذلك، ربما يؤدي إلى تقويته».. (وكأنهم حريصون على تقوية الإسلام)!.. ولنقرأ أيضا: «ينبغي بناء الإسلام الغربي، والإسلام الألماني، والإسلام الأميركي».. ولنقرأ كذلك فتحت عنوان «حروب الحديث ملحق أ» - وهو عنوان يقصد به «الحديث النبوي» المصدر الثاني من مصادر الإسلام - طرحت مفاهيم عديدة تشكك في صحة الحديث النبوي من الناحية العلمية والتاريخية. ثم يقرر تقرير «راند» بصيغة الحسم والجزم: «وما لا يستطيع الحديث فعله هو أن يقرر أي شيء بشكل مستقل وموثوق».

وفي حقيقة الأمر، فإن الدوائر الغربية الموكلة بهذا الأمر، إنما اندفعت أشواطا مثيرة في «تصعيد» الحملة الرامية إلى تفكيك الإسلام أو تغييره بسبب أحداث 11 سبتمبر، وإلا فإن الضغط أقدم من ذلك، وهو ضغط يستند إلى مفهومين استراتيجيين لدى الدوائر الغربية المعنية:

1) مفهوم «فرض مفهوم الدين عند الغرب» على المسلمين، وهو مفهوم ذو شقين: شق إمكان تعديل الإسلام نفسه كما حدث بالنسبة للمسيحية.. وشق فصل الدين عن الدولة كما وقع في الغرب أيضا بعد صراع مرير بين ما عرف عندهم بالسلطتين: الزمنية والدينية.

2) مفهوم قياس العالم الإسلامي على تجربة الاتحاد السوفياتي، وأن هذه التجربة كما نجحت مع السوفيات والشيوعية ستنجح مع المسلمين والإسلام.. يقول تقرير «راند»: «إن التوليفة القوية من حماية المصالح الأميركية، والترويج للقيم الأميركية كانت العامل الرئيسي في تقويض النظام الشيوعي السوفياتي من الداخل. ونفس التوليفة يمكنها أن تساعد على التحول المطلوب في العالم الإسلامي».

يبدو أن «معركة الأفكار» التي تخوضها دوائر غربية تجاه الإسلام، أحدثت آثارا ونتائج. ففي العقد الأخير ماج العالم الإسلامي بطرح فكري عمد إلى محاولة إضعاف ثقة المسلمين بالقرآن والسنة تحت عناوين عديدة، كما عمد إلى إحياء جدل قديم حول علاقة الدين بالدولة في الإسلام.. وفي هذا المناخ، روّج لمصطلحات كثيرة مثل: الإسلام الديمقراطي.. والإسلام المدني (وهما مركب عنوان تقرير راند).. والدولة المدنية، وهو مصطلح قصد به رفض ما سمي بـ«الدولة الدينية».. ولسنا ندري: ما العبقرية؟.. ما المصلحة في «إحياء شبهات قديمة» وتصويرها في صورة «الفكر الجديد»؟!!.. ثم هي شبهات لا علاقة لها بقيم ديننا ولا بحضارتنا ولا بتاريخنا السياسي. فـ«الدولة أو الحكومة الدينية» نتاج غربي أوروبي له ظروفه ودواعيه ونواقضه الموضوعية هناك. ففي القرن الخامس الميلادي أصّل القديس أوغسطين طبائع السلطتين: الزمنية والدينية بقوله: «إن الأولى قامت على أساس الغدر والشر لأنها من صنع البشر، ولذلك يجب أن تخضع لسلطة الكنيسة وهي الهيئة التي تمثل (دولة الله على الأرض)»..

فهل لهذه المفاهيم والأعاجيب وجود في عقيدتنا وحضارتنا وتاريخنا السياسي؟.. ثم بأي حق عقلاني أو أخلاقي يسقطون غرائب الآخرين علينا؟