الربيع العربي قمة جبل الثلج العائم

TT

منعت مرؤوسيّ من الشباب الإنجليز استخدام التعبير العبثي Arab Spring (الربيع العربي) لأجنبهم ارتكاب جريمة التضليل التاريخي للقراء والمشاهدين بـ«كليشيه» يستخف بعقول الناس، بينما قلدت الصحافة العربية التعبير بببغائية بلا إدراك النتائج المترتبة.

أحيانا ما نضبط، كصحافيين، متلبسين بالكسل.

التعبير صكه زميل، يبدو «مبسوط شوية» في آخر الليل استخرج «المزاج» من ذاكرته ثورات ربيع 1989 التي انتهت بالقضاء على الشمولية في شرق أوروبا، وبالكسل نفسه احتفظ بـ«الربيع» واستبدل أوروبا بـ«العربي». الحرفية الصحافية تحتاج موهبة الاجتهاد لابتكار تعبير دقيق تاريخيا، يعكس خصوصية القصة نفسها بجاذبية المانشيت.

تيار آخر - غربيا وشرق أوسطيا - يتعمد النفاذ إلى لاشعور العقل الجماعي باستراتيجية تهدف لاختطاف ثورات الشعوب وتعطيل الديمقراطية وبسط الشمولية.

بلدان استعمار القرن الـ19 كبريطانيا وفرنسا تفضل، دبلوماسيا، التعامل مع موزاييك تطمس وضوح تباينه في كتلة اسمها «العرب». الجامعة العربية مشروع بريطاني عقب الحرب العالمية الثانية للاحتفاظ بمنطقة النفوذ الإمبراطوري بعيدا عن النفوذين الأميركي والفرنسي (لبنان شرقا، وحدود تونس غربا).

العمود الفقري للجامعة كمشروع بريطاني كان محور القاهرة - الرياض. مصر بثقلها الحضاري صدرت البيروقراطية، وأنظمة التعليم والثقافة والفنون، والصحافة للمنطقة. لكن مصر - وكانت في ملفات دبلوماسية القوى العظمى وقتها تحت «أفريقيا» وليس Arabia (الممتدة من جنوب سوريا حتى المحيط الهندي) - لم تكن «عربت» ثقافيا وسياسيا واجتماعيا (التعريب بدأته الديكتاتورية الناصرية كجزء من مشروعها للسيطرة على المنطقة بآيديولوجيا بعثية بعد الوحدة مع سوريا). فمصر كانت متوسطية أوروبية، لأن نظامها السياسي التعليمي الثقافي الاجتماعي الذي بدأه محمد علي، رسخ الخديو إسماعيل أساسه أوروبيا.

المملكة العربية السعودية كالدعامة الثانية أضفت أهم شرعيتين. إسلامية بمكانتها في قلوب مسلمي العالم، وأكبر بلد عربي جغرافيا وسكانيا وبنفوذها السياسي على البلدان المحيطة.

ولذا يخامرني الشك في أهداف استراتيجية المؤسسة السياسية البريطانية بترويج كليشيه «الربيع العربي».

الكليشيه يروجه إقليميا تياران: العروبجي الناصري (البعث ماركة 2 الذي يروج للعودة للناصرية) المسيطر صحافيا؛ والإخوانجي الإسلاموجي المسيطر بتبرعات بالملايين من أطراف خارجية على مناهج التعليم المباشر وغير المباشر.

الإخوان، تاريخيا اختراع سياسي للدبلوماسية السرية البريطانية في العشرينات لضرب الحركة الوطنية المصرية الليبرالية (تظاهر الوطنيون لإخراج الإنجليز من مصر ولمجانية التعليم، وتظاهر الإخوان لتحجيب النساء ولعودة الخلافة). التياران، الإخوانجي والعروبجي يشتركان آيديولوجيا في الشمولية الفاشية. مؤسسا البعث، البيطار وعفلق، تلميذان للفاشية الإيطالية، أما شعارات وبرنامج الإخوانجية بفرض أسلوب الحياة الشمولي قسرا على الأفراد فأدعو القراء لمقارنتها بتعريف الفاشية ومفرداتها في دوائر المعارف.

العسكرتارية أزاحت مباركية الوطني الديمقراطي لتجلس على قمة هرم النظام، وغيرت اللافتات ولون إضاءة الأحجار بلا تغيير لهيكله. التركيبة الصحافية والمزاج السياسي أتاحا الفرصة للتيارين العروبجي والإخوانجي في فرض الكليشيه المضلل «الربيع العربي» على اللغة اليومية كمحاولة لدفن تعبيرات أكثر دقة ودلالة للخصوصية القومية العرقية جغرافيا وتاريخيا.

ثورة الياسمين، لها الخصوصية التونسية الأفريقية المتوسطية، وثورة اللوتس، اسم زهرة تعكس أصالة الحضارة المصرية؛ فموطنها النيل بتدفق ديمومة العطاء وتجدد الحياة من المنبع للمصب، والزهرة تتوج أعمدة المعابد المصرية منذ عهد أحمس.

الثورة الليبية (سمعت من أبطالها وبطلاتها وصف ثورة الاستقلال الثاني ورمزها علم الاستقلال الأول الذي رفعه السنوسي موحد ليبيا)، وثورتا اللوتس والياسمين يخلو العنوان الذي اختاره الثوار مما يمكن الناصريين العروبيين، أو الإخوانجية من «الخنصرة» (تعني بالمصرية مغافلة بائع غشاش للزبون ليسرق بعض البضاعة بإصبعه الخنصر).

الثورات المتجهة للنجاح كالاستقلال الليبية، وربع الكاملة كالياسمين، والمخطوفة كاللوتس، كلها أفريقية، وأسماؤها لها خصوصيات قومية تونسية، وقومية مصرية، بعيدة عن مفردات الناصرية العروبية، وشعار «الإسلام هو الحل» بظاهر إيماني وباطن تضليلي. فالإيمان لفرد ضل طريقه هو دعم روحاني في جهاده الأكبر لإصلاح النفس؛ وتقديمه كمشروع سياسي هو استغفال لـ54 مليون ناخب همهم تخفيض الضرائب ورفع الدخل وخلق فرص عمل.

التعريب الناصري للثورات يجهض الديمقراطية فتلد كولونيل جديدا (عبد الناصر أو قذافي أو أسد) وتدور عجلة التاريخ بنصف قرن ديكتاتورية.

ورغم العداء بين الناصريين والإخوان (بعد اختلافهم كشركاء انقلاب يوليو/ تموز على تقسيم الكعكة) تجمعهم اليوم المصلحة الفاشية الشمولية. ويصبح مفهوم «ربيع العرب» بشمولية الكتلة الواحدة (ودعم الدبلوماسية البريطانية لاستعادة الجامعة العربية التي سرقها الكولونيل ناصر) حصان طروادة الذي يركبه السكرتير السابق للجامعة فيتسلل الإخوان في بطنه إلى قصر الرئاسة والبرلمان.

ثوار ربيع أوروبا، كان أمامهم نموذج واحد: الديمقراطية التي عرفوها قبل اجتياح النازية لأوروبا، وملء ستالين فراغ شرق القارة بعد 1945.

الناصرية العروبجية محت من الذاكرة الجماعية المصرية مرحلة التعددية الدستورية البرلمانية (1922 - 1954). الشباب بلا ذاكرة يضللهم مفهوم «الربيع العربي». وتتعدد النماذج: الإيراني بشمولية ولاية الفقيه؟ أم السلفي الطالباني؟ أم الفوضى الخلاقة العراقي؟

التركي يضع العسكر فوق الدستور، وحكومة حزب بلافتة مدنية وجوهر إسلاموي. أردوغان (احتضنه الإخوان) قادم بخطة خفية بسيطرة عثمانية جديدة ليصطاد في ماء عكر؛ تصعيد موجة العداء لمعاهدة السلام (رغم غياب شعارات دعم فلسطين من كل الثورات).

عداء يديره الناصريون العروبيون. فحرب باردة، ومواجهات محدودة مع إسرائيل ستكرس النموذج التركي، المفضل لأميركا والغرب والعسكر. العداء لليهود والصليبيين إكسير حياة للإخوان المتلقين حقنة فيتامين 70 مليون دولار مؤخرا من قوى خارج بلدان الثورات. قوى تتشدق بالديمقراطية في فضائيات تكرس «الربيع العروبجي».

كيف تقلد مناظرات اتحاد جامعة أكسفورد، وتدعو البرلمانيين الغربيين إلى مؤتمرات الديمقراطية وحرية السوق وتحاضرنا عن انتخابات تكافؤ فرص القوى السياسية في الوصول ببرامج واضحة للناخب، ثم ترجح كفة الإخوان على القوى الوطنية بـ70 مليون دولار (تحلم بها بلدان أفريقيا)، تمكنهم من رشوة من أفقرتهم الثورة بالتصويت للجماعة لدخول الجنة حسب فتاوى دعاة الفضائيات «المدعومين» بحقن فيتامين؟

بالمثل الإنجليزي، ضع مالك حيث يضع فمك كلماته، نسأل: لماذا لم تدعم أوبرا أو كلاسيكيات إغريقية لتنقية عقول المصريين ودعم المواهب، بميزانية واحد من مائة ألف مما وهبته لجماعة إظلامية تريد فرض الحجاب على العقل واجتهاداته وإبداعه، مفضلة العودة إلى القرون الوسطى، وصكوك الغفران وتعليق مفاتيح الجنة في رقاب أطفال أبرياء زجت بهم الفاشية الثيوقراطية لتطهير حقول الألغام؟

هل رأينا بعد بقية جبل الثلج العائم وقمته كليشيه «الربيع العربي»؟