روسيا والأصدقاء والخريف الداهم

TT

من الأهداف المهمة التي سجلتها الولايات المتحدة وحلفاؤها في أحداث ليبيا هو مزيد من إظهار الحجم الحقيقي لروسيا اليوم ومن ثمة تقديم رسالة معمقة مفادها أنّ الرهان على روسيا وعلى حقّ الفيتو الذي تتمتع به في مجلس الأمن هو رهان أكثر من خاسر.

ذلك أن متابعة لتفاصيل الموقف الروسي وكيفية تطوره، تخلص بنا إلى استنتاج أن روسيا تلعب أدوارا مبرمجة ودقيقة وأن أي معركة مع دولة من دول العالم العربي، تشكل بالنسبة إليها فرصة للاستثمار باعتبار أن ممانعتها - بدءا من تسليط العقوبات الاقتصادية وصولا إلى التدخل العسكري - هي ممانعة من أجل فرض أكبر حصة ممكنة من الغنيمة. بمعنى أن روسيا تزن مواقفها بميزان المشاريع وحجم نصيبها من النفط وغيره من الثروات. فأي تغير في الموقف الروسي هو بالضرورة نتاج ضمانات سرية ومعلنة، وهو ما يعني أن روسيا التي باتت غير قوية مقارنة بالأمس لا تزال تعيش على امتيازات زمن كانت تسمى فيه بالاتحاد السوفياتي.

والدول التي لا تزال تتمسك بتسميتها بالصديقة فهي لا تتخلى عنها بسهولة ومن الشرارة الأولى لأنها تمثل مصدرا لتسويق الأسلحة الروسية. على أنه عندما يضيق الخناق على الدولة الصديقة، فإن روسيا تضطر إلى إعادة تشكيل العلاقة من جديد وهو ما رأيناه أثناء الحرب على العراق وما تكرر مع ليبيا ويبدو أنه سيكون السيناريو نفسه مع سوريا.

وتلبس هذه الطريقة الروسية (وهي طريقة هاضمة لجوهر العمل السياسي) في ممارسة السياسة وفي حماية المصالح الاقتصادية، ثوب الصداقة في العلاقات بالأنظمة العربية. ولكن ما يفوت الكثير من رجال السياسة العرب هو أن روسيا تعرف جيدا حدود هذه الصداقة واللحظة المواتية لقطعها وكيفية المتاجرة بها في مجلس الأمن، في حين أن الأنظمة العربية تنطلي عليها حيلة الصداقة بشكل يُظهر مدى جهل بعض النخب السياسية العربية الحاكمة بفن السياسة وعلومها ودهاليزها وبورصتها.

ويمكن أن نذهب في هذا التحليل بعيدا ونجازف بالقول إن بين روسيا والولايات والمتحدة والدول الأوروبية الكبرى لعبة تقسيم أدوار من أجل ضبط إيقاع الأحداث، تقوم على الشد والجذب، مما يجعل الموافق والممانع يغنمان عمليا، وإن كان التسويق الإعلامي للمواقف السياسية قد يوحي بسيناريوهات أخرى من العلاقات.

من هذا المنطلق نعتبر أن سقوط الأنظمة العربية المدعومة من روسيا أو التي تعتبرها دولا صديقة يعني آليا تآكل حق الفيتو الروسي، وأن ولاء النخب السياسية العربية الجديدة سيكون للولايات المتحدة ولبعض الدول الأوروبية، بل إن ما سمي بربيع العالم العربي هو خريف روسيا بالتمام والكمال، إذ إن وزنها الدولي ما فتئ ينحسر بعد فقدان الأصدقاء بشكل يوحي بأن حربا غير مباشرة تشن ضد ما تبقى من الاتحاد السوفياتي، ويبدو أن روسيا نفسها مستوعبة للرسالة من خلال انتهاج سياسة الممانعة بالفيتو، التي هي في العمق مفاوضات حول كيفية تعويض خسائرها بأقل ما يمكن من ضمانات.

وتبين لنا كل هذه التفاصيل إلى أي درجة هم قوم سياسة بامتياز وكم نحن نصدّق شعار الصداقة رغم كل تحذيرات مكيافيلي في كتابه «الأمير».