مصر والعثمانيون الجدد

TT

زيارة رجب طيب أردوغان لمصر زيارة مثيرة وكاشفة للمجتمعين والدولتين في تركيا وفي مصر. في تركيا هناك رغبة للتأكيد على الهيمنة العثمانية أو التركية على المنطقة العربية تحديدا، تركيا تطرح نفسها كبديل سني لمحاولات الهيمنة الشيعية القادمة من إيران. وبما أن العالم العربي اليوم في حالة ترهل في دول وانفلات في دول أخرى، فإنه يكون منطقيا، من منظور تركي، أن يدخل الأتراك ويأخذوا حصتهم في هذه التركة التي تشبه ميراث اليتامى الذين ليس لهم عصبة، فيتولى أمرهم أبناء العمومة أو الشركاء في العقيدة مثل إيران وتركيا. ولكن ليس هذا هو المهم، فالموضوع أعمق من ذلك بكثير ويحتاج إلى سلسلة مقالات طويلة. ومع ذلك فزيارة أردوغان كاشفة لمصر كما سوف تكشفها أكثر زيارة ميليس زيناوي رئيس وزراء إثيوبيا، وقد يهلل المصريون لزيناوي كما هللوا لأردوغان لأنه سوف يمنحهم ما يظنونه مكسبا في اتفاقية حوض النيل، غير مدركين أن زيناوي لن يخرج من الاتفاقية قبل شهر ديسمبر (كانون الأول) القادم، ليس لعيون مصر ولكن لأن الأموال التي أودعها الاتحاد الأوروبي وأيضا أميركا ودول أخرى في صندوق اتفاق دول الحوض تنتهي مدة استخدامها في شهر ديسمبر، أو في نهاية 2011، وزيناوي يريد أن «يضحك على» المصريين حتى يستخدم كل هذه الأموال، وبعدها يحلها ألف حلال. وربما هذا ما حدث مع أردوغان، ولكن لأسباب أخرى، فالحوار الاستراتيجي الذي حاول المصريون والأتراك أن يؤسسوا له خلال هذه الزيارة ربما هو مجرد فيل أبيض، على حسب التعبير الأميركي، لن يقدم أو يؤخر. ولكن في نشوة الثورة وحماسها وبهجتها، نبحث عن نماذج خارجنا لكي نتبناها ولا ننظر إلى دواخلنا أو دواخل الوطن للإتيان بنموذج محلي أصيل نابع منا.

النموذج التركي ليس فيه عيب، ولكن العيب في المصريين الذين يحاولون تبنيه من دون معرفة حقيقية لأبعاده، ويتبناه البعض في لحظة النشوة للأسباب الخطأ، فجل الأحاديث وحرارة الترحاب بأردوغان في القاهرة كانت لأن تركيا اتخذت مواقف إعلامية من إسرائيل، سواء أكان ذلك في موضوع «أسطول الحرية» أو حالة التوتر الدبلوماسي الجارية بين إسرائيل وتركيا اليوم، وهي حالة لن تدوم كثيرا بكل تأكيد. فإسرائيل وتركيا تريان أنهما من أهم دول المنطقة وأكثرها تقدما، وتحالفهما الاستراتيجي لن تعكر صفوه بعض الفرقعات الإعلامية. ما علينا، حتى لو كان الموقف التركي ليس إعلاميا بل أصيلا ونابعا من آيديولوجية الحزب الإسلامي الحاكم في تركيا. ولكن هل يقبل المصريون تبني النموذج التركي بكامل تبعاته؟ أي هل يقبل المصريون أن يكونوا جزءا من حلف «الناتو»، وأن تكون للحلف قواعد وجيوش على الأراضي المصرية كما هو الحال في تركيا؟ يفتخر المصريون كثيرا بأنهم دائما كانوا من الرافضين لفكرة الأحلاف العسكرية بداية من «حلف بغداد» في السابق إلى الأحلاف الحديثة. فإذا كان هناك من يبتغون النموذج التركي في مصر، فليعلموا أن تركيا بلعت المر وقبلت أن تكون جزءا من الحلف العسكري الأكبر في العالم، وهو حلف «الناتو». فهل ستقبل مصر أن تكون ذراع «الناتو» العسكرية في المنطقة حتى يشملها العالم برعايته، أم أنها ستظل جزءا من حركة الحياد الإيجابي وعدم الانحياز؟

حالة الاضطراب والضبابية الفكرية المسيطرة على مصر، في جزء كبير منها هي امتداد للعقم الفكري في فترة مبارك التي كانت فيها العناوين الرئيسية لـلصحف الرئيسية تخرج علينا قائلة بأن نائب مساعد وزير الخارجية الأميركية لشؤون الشرق الأوسط يشيد بالاقتصاد المصري وبحكمة الرئيس على إدارته لمراحل التحول الاقتصادي، وهنا يجب أن يعرف القارئ بأنه في التسلسل الوظيفي في الخارجية الأميركية، هناك اثنان وثلاثون مساعدا لوزير الخارجية، وهذا النائب الذي أشاد بحكمة مبارك هو مجرد نائب لواحد من هؤلاء الاثنين والثلاثين، ومع ذلك كان خبر كهذا يتصدر صفحات الجرائد في القاهرة.

كانت في مصر لدى أهل الحكم، ولا تزال، دوافع عدم الثقة بالنفس التي يغطيها كلام كبير عن الوطنية المصرية الخالصة من نوعية الأغاني التي كانت سمة من سمات العصر مثل «ريسنا ملاح ومعدينا». انعدام الثقة بالنفس، وانعدام الثقة بالقدرة على الإتيان بفكرة محلية وتطويرها وتحويلها إلى عمل مؤسساتي، هو ما يجعل مصر دائما في حالة البحث عن نموذج خارجي، نموذج تركيا مرة ونموذج مهاتير محمد مرة أخرى، ومرة مؤتمر دافوس وشواب الذي أصبح في يوم من الأيام أشبه بالحج يذهب إليه عمرو موسى وجمال مبارك وشيمعون بيريس، ولا يعرف جماعتنا أن «دافوس» كان باباً خلفياً للتطبيع. وبزغ نجم رجب طيب أردوغان في دافوس في مواجهة مع بيريس حضرها عمرو موسى أيضا، وكتبت يومها مقالا بعنوان «رجب حوش صاحبك عني»، لأن تركيا وإسرائيل في تلك الأيام كانتا في شراكة استراتيجية حقيقية تشمل أمورا دقيقة مرتبطة بوزارة الدفاع التركية وعلاقة كل من إسرائيل وتركيا بـ«الناتو» والولايات المتحدة.

الحنين إلى العثمانية ما زال له جذور لا بأس بعمقها في مصر وتحديدا في القاهرة، فلقد قابلت شخصيا العديد من المثقفين المصريين الذين يتحدثون بفخر واعتزاز عن أصولهم التركية من ناحية الجدة للأم أو الجدة للأب، خصوصا من أصحاب البشرة الأقل سمرة أو الفاتحة. السبب الرئيسي للهرولة نحو النموذج التركي هو العقم الفكري، ولكن الخطورة في أن يختار المصريون النموذج التركي للأسباب الخطأ منبهرين إما بـ«الشو الإعلامي» التركي ضد إسرائيل وإما منقادين لآيديولوجية الحزب الحاكم الإسلامية. المروجون للنموذج التركي في مصر لا يريدون النموذج كله بعلمانيته وارتباطاته الدولية السياسية والعسكرية، هم يريدون فقط قشورا ترضي جهل الكثيرين وغرورهم. ولهذا أرفض الترويج للاثنين: الجهل والنموذج.