نحو ثقافة سياسية عالمية

TT

واشنطن - يشكل التحول الجاري في السياسة العالمية تحديا مشتركا لنا جميعا.

واسمحوا لي أن أبدأ بشكل مجمل بذكر ثلاث حقائق أشمل، يلي ذلك توضيح وجيز لكل منها، ثم سأختم بتقديم اقتراح متواضع:

أولا، التعصب الطوباوي لا يهدد السلام العالمي، كما كان الحال خلال القرن العشرين، ولكن يهدده التعقد المضطرب المتأصل في ظاهرة الصحوة السياسية المتقلبة على الصعيد العالمي.

ثانيا، يعد التقدم الاجتماعي الشامل والدائم أقرب منالا من خلال المشاركة الديمقراطية عنها في التعبئة الاستبدادية.

ثالثا، لا يمكن في عصرنا هذا أن يتم تعزيز الاستقرار العالمي إلا عن طريق التعاون على نطاق أوسع، لا من خلال الهيمنة الإمبريالية.

وقد اتسم القرن العشرون بجهود آيديولوجية متعصبة لإعادة إنشاء مجتمعات بأساليب شمولية وحشية على أساس مخططات طوباوية. وتعلم أوروبا القرن العشرين أكثر من غيرها التكاليف البشرية لمثل هذا التعصب الآيديولوجي الساذج والمتغطرس. ولكن اليوم، لحسن الحظ، وباستثناء بعض الحالات الفردية إلى حد كبير، ككوريا الشمالية، لا يتوقع إمكانية بناء مجتمع اشتراكي طوباوي جديد على نطاق واسع.

ويعود ذلك في جانب كبير منه إلى أن العالم كله في القرن الـ21، وللمرة الأولى في تاريخ البشرية، قد أصبح يقظا سياسيا. فشعوب العالم مضطربة ومستاءة من الحرمان الاجتماعي النسبي، ورافضة بشكل متزايد للتعبئة السياسية الاستبدادية. ويترتب على ذلك أن المشاركة الديمقراطية، على المدى البعيد، هي أفضل ضمان لكل من التقدم الاجتماعي والاستقرار السياسي.

ولكن مع ذلك، يشكل تجمع التطلعات الشعبية المتزايدة، والصعوبات الكامنة في تشكيل استجابات عالمية مشتركة للأزمات السياسية والاقتصادية، في الساحة العالمية، خطرا يتمثل في حدوث فوضى دولية، لن تتمكن ألمانيا وحدها، ولا روسيا وحدها، ولا تركيا وحدها، ولا الصين وحدها، ولا أميركا وحدها، من توفير استجابة فعالة لها. ولا يمكن في الواقع، معالجة الاضطرابات العالمية المحتملة - التي يتصادف ظهورها مع ظهور تهديدات جديدة لرفاه المجتمعات، على المستوى العالمي، وتهديدات حتى لبقاء الإنسان نفسه - بفعالية إلا في إطار تعاون أكبر، مبني على أساس القيم الديمقراطية المشتركة واسعة النطاق.

والحقيقة الأساسية هي أن الترابط ليس شعارا، بل هو وصف لواقع يتحول إلى حقيقة ملحة على نحو متزايد. فقد بدأت أميركا تدرك أنها بحاجة إلى أوروبا كحليف، على المستوى العالمي، وأن تعاونها مع روسيا هو مصدر للمنفعة المتبادلة المتزايدة، وأن الترابط الاقتصادي والمالي مع الصين، الصاعدة بسرعة، له حساسية سياسية خاصة، وأن علاقاتها مع اليابان ليست مهمة لكلا الجانبين فحسب، بل هي مهمة لرفاه منطقة المحيط الهادي كلها. من ناحية أخرى تلتزم ألمانيا بـ«أوروبا أكثر توحدا» داخل إطار الاتحاد الأوروبي، كما تلتزم بصلاتها الوثيقة، عبر الأطلسي، مع الولايات المتحدة، وفي هذا السياق، يمكنها أن تعزز بأمان المنفعة المتبادلة للتعاون الاقتصادي والسياسي مع روسيا.

وتقوم تركيا، التي بدأت عملية التحديث الاجتماعي والوطني منذ 100 عام تقريبا، متخذة أوروبا إلى حد كبير نموذجا لها، بتبني دور إقليمي أكبر، بوصفها دولة ديناميكية اقتصاديا وديمقراطية سياسيا، بالإضافة إلى كونها عضوا في الحلف الأطلسي، وجارة طيبة لروسيا. كما تطمح روسيا، التي أدركت أن التحديث والديمقراطية هما شيئان مهمان وحيويان لدورها العالمي المهم، إلى توسيع نطاق تعاونها مع أوروبا وأميركا، وبطبيعة الحال مع الصين، جارتها الحيوية في الشرق.

وبالتالي فقد حان الوقت لترجمة القيم والمصالح التي تربطنا معا في علاقات أكثر شمولا. وهذا يتطلب تعزيزا متعمدا للمصالحة الحقيقية بين الشعوب المتصارعة تاريخيا. فلم يكن الاتحاد الأوروبي ليكون موجودا اليوم، لولا الجهود المتعمدة التي بذلتها كل من فرنسا وألمانيا - ليس فقط على المستوى الرسمي، ولكن بين شعوبها بشكل خاص - لتبني مصالحة وطنية حقيقية وعميقة الجذور. ولم يكن باستطاعة الاتحاد الأوروبي احتضان دول وسط أوروبا، لولا الجهود المستمرة المماثلة، التي بذلت في الآونة الأخيرة، بين الألمان والبولنديين.

وقد أصبحت تركيا وروسيا، على الرغم من أنهما كانا أعداء في الماضي، جارتين تربطهما علاقات جيدة، كما تدخل تركيا والاتحاد الأوروبي الآن في مفاوضات معقدة حول علاقة للمنفعة المتبادلة لكلا الطرفين. ولا يمكن أن تخرج إلى حيز الوجود أوروبا أكثر اتساعا، من دون مصالحة مماثلة، على نطاق واسع، بين البولنديين والروس. كما يمكن أن يظهر إطار أوسع للتعاون مع توسيع أميركا وروسيا لنطاق تعاونهما، والاستفادة من حقيقة أنه، على مستوى الشعوب، لم يكن هناك عداء حقيقي شديد بين الأميركيين والروس.

ونحن بحاجة، في كل الأحوال، لمواجهة حقيقة أنه في العقود المقبلة، سيكون التعاون على نطاق واسع بين المناطق شيئا ضروريا لتحقيق الرفاه، على المستوى العالمي.

ويعكس الظهور المستمر للدول الآسيوية، الديناميكية والكثيرة السكان، باعتبارها من اللاعبين الرئيسيين - التي من أبرزها الصين في الوقت الحالي، واليابان في وقت سابق، والهند وإندونيسيا في القريب العاجل - وكذلك الظهور المتزايد لمنظمات دولية آسيوية، مزايا التعاون الدولي الواسعة النطاق بين جميع مناطق العالم. وفي الواقع، كلما زاد التعاون الإقليمي في آسيا نفسها، قل احتمال أن تكرر آسيا تاريخ أوروبا المؤلم في القرن العشرين، وازداد أيضا احتمال توسيع نطاق التعاون بين الشرق الجديد والغرب القديم.

وتوحي إمكانيات مثل هذا التعاون، إذا ما تم تجنب صراعات كبرى جديدة، بأنه في خلال العقود المقبلة من الممكن في نهاية المطاف أن تتشارك الشعوب، التي أصبحت الآن متيقظة سياسيا، في ثقافة عالمية سياسية، يتم من خلالها تعزيز التعاون العالمي - على الرغم من بعض الاختلافات المحلية التي لا مفر منها - وفقا لمبادئ ديمقراطية قائمة على قواعد دستورية. وتقدم اليابان وكوريا الجنوبية والهند أمثلة لإمكانات الثقافة الديمقراطية العالمية المشتركة. وقد حان الوقت لنأخذ في الاعتبار هذه الاحتمالات الواعدة، خاصة في مواجهة الميل الحالي للانخراط في التشاؤم التاريخي. كما حان الوقت أيضا للتفكير بشكل ملموس وعملي، من الناحية الجغرافية السياسية، في كيفية قيامنا بصبر، بتطوير وإضفاء الطابع المؤسسي على مثل هذا المستقبل الواعد، خطوة بخطوة.

* مستشار الأمن القومي في عهد الرئيس الأميركي الأسبق جيمي كارتر

* خدمة «غلوبال فيوبوينت»