أردوغان والبحر الأبيض

TT

وبوصول حزب إسلامي إلى الحكم في تركيا انتعشت آمال جماعة الإخوان المسلمين في الوصول إلى الحكم في مصر، وبنجاح الحزب في تحقيق إنجازات ملموسة على المستوى الاقتصادي والسياسي والاجتماعي، تحولت تلك الآمال إلى ورقة رابحة يحاجون بها خصومهم، كما يخاطبون ويخطبون بها ود الغرب الخائف أيضا، الورقة تقول: لا تخافوا، هذا هو حزب إسلامي يصل إلى الحكم في تركيا، وهي بلد من أهم بلدان الشرق الأوسط.. وهذا هو الحزب يشع على المجتمع التركي سلاما وعدلا وتنمية.. ما رأيكم دام فضلكم؟ هل ما زلتم ترون خطرا في وصولنا إلى الحكم في مصر؟

وأخيرا جاءت الفرصة للحفاوة بهذا الرجل الذي يمثل لهم الأمل والدعم، استقبلوه استقبال الفاتحين عند زيارته إلى مصر. غير أن الرجل وبخبرة لاعب كرة القدم القديم (لمدة عشرة أعوام احترف هذه اللعبة) في نهاية زيارته لمصر، أحرز هدفا قاتلا في مرماهم في اللحظة الأخيرة من المباراة، وربما قبل أن تنطلق صفارة الحكم معلنة نهاية الزيارة. وذلك عندما قال بكل وضوح إن نظام الحكم في تركيا علماني، وإنه مسلم علماني، وإنه على الدولة أن تقف على مسافة واحدة من كل أصحاب الأديان، وإنه لا يوجد شخص علماني، بل يوجد نظام علماني. بعد هذه التصريحات انهارت كل خطوط فريق الجماعة الدفاعية التي حرصت في الآونة الأخيرة، هي وبقية الجماعات السلفية وجماعات الدين السياسي، على إشاعة أن العلمانيين كفار وأن الدولة العلمانية دولة كافرة. من حسن حظنا وحظ السيد أردوغان أنه صرح بهذه الأفكار الصادمة في اللقاءات التلفزيونية وفي لقاءاته مع المثقفين ورجال الأعمال، ولو كان صرح بهذه الأفكار في استاد القاهرة، لقام على الفور جمهور الجماعة بتدمير الاستاد والعدوان على الحكام وضرب رجال الشرطة بعد أن فقدوا في لحظة نتيجة المباراة التي ظنوها في جيوبهم، مباراة الحكم والوصول إلى السلطة، لا هم ولا حتى العلمانيون في مصر كانوا يتخيلون أنه سيعلن هذه الحقائق بكل هذا الوضوح. وهنا بدأ حديث الجماعة عن أنه ليس من حق أحد أن يتدخل في شؤوننا الداخلية، وأن مصر ليست تركيا، الواقع أن الرجل لم يتدخل لا في شؤون مصر ولا في شؤون المريخ، الرجل كان يتكلم عن الحكم في تركيا وعن حزبه وعن آليات الحكم في تركيا التي حققت الإنجازات التي جعلته يحظى بترحيب وإعجاب الناس في زيارته لمصر.

من المسلمات في عالم السياسة أن مصطفى كمال أتاتورك هو الذي فصل الدين عن الدولة في تركيا الحديثة، إنه هو الذي حولها إلى دولة علمانية بعد إلغاء الخلافة الإسلامية. وهذا كله صحيح، غير أنه من الصحيح أيضا أن الإمبراطورية العثمانية حكمت شعوبا مختلفة، لها أديان مختلفة وأعراق مختلفة ومذاهب مختلفة، لذلك كان من الطبيعي من الناحية العملية ومن أجل المزيد من السهولة في حكمهم، كان من الطبيعي أن تكون الدولة على مسافة واحدة من كل أديان وأجناس رعاياها. لم يأت أتاتورك بالعلمانية من العدم، لقد كانت قواعدها موجودة بالفعل في فعاليات السلطة والحكم، ما يخفيها عن أنظار العالم كانت الخلافة الإسلامية التي رأى أنها سببت لتركيا الكوارث. لقد أعلن رجب طيب أردوغان عن وجود ما كان موجودا من قبل داخل ماكينة الحكم والدولة، إنه من الممكن أن تكون مسلما وعلمانيا في الوقت نفسه، وأن هذه هي الطريقة الوحيدة لتحقيق التنمية في مجتمع مسلم، أو على الأقل كانت الوسيلة لتحقيق التنمية في تركيا.

لقد حاولت تركيا ولسنوات طويلة أن تنضم للاتحاد الأوروبي، غير أن الاتحاد لم يستجب لها، ربما لأنه يرى أنها لم تحقق بعد ما كان يجب عليها تحقيقه في مجال حقوق الإنسان، وربما لأنها ما زالت تعاني من مشاكل عرقية لم تعد أوروبا تعرفها مثل مشكلة الأكراد، وربما لأن الجزء الشرق - أوسطى فيها يغلب على الجزء الأوروبي منها. لتكن الأسباب ما تكون، المهم أن تركيا المسلحة والفخورة بما حققته في طريق التنمية، رأت أخيرا أن من حقها أن تدفع الغرب لإعادة النظر في قدرتها على التأثير في الشرق الأوسط أو بمعنى أدق في الدول المتوسطية أي الواقعة على شواطئ البحر الأبيض المتوسط.

خلاف تركيا مع إسرائيل على الرغم من حدته ما زال يدور في إطاره المحسوب، لن يتحول إلى حرب، لذلك سنلاحظ أن حديث أردوغان عن إسرائيل في مصر كان يتسم بالحذر والبعد عن التهور والحرص على عدم إهانة الشعب الإسرائيلي، معركته مع الحكومة الإسرائيلية فقط، هذا الحرص يعكس وعيا بأن العلاقة بينهما قابلة للاستئناف، ليس بضغط من أميركا هذه المرة بل بضغط من أوروبا التي تتابع بالطبع رحلته على شواطئ المتوسط التي تمثل حديقتها الخلفية. العامل الوحيد الذي يجمع البلاد التي يختلف معها أردوغان، وهي بلدة واحدة هي إسرائيل، والبلاد التي يعمل على التحالف معها، وهي مصر وليبيا وتونس، هي أنها جميعا متوسطية أي تقع على البحر الأبيض، وهو ما يجعل تأثيرها قويا للغاية إيجابا وسلبا على أوروبا (عند هذه الكلمة في كتابة المقال، ظهر خبر من تونس يظهر تصريحا لأردوغان يقول فيه: لم يعد بوسع إسرائيل أن تفعل ما تريد في البحر الأبيض.. وأن الأسطول التركي سيكون له دور أكبر في البحر الأبيض) كما ترى، بدأ اسم هذا البحر يتردد بقوة وبكثرة هذه الأيام وهو ما يعزز فهمي لطبيعة رحلة السيد أردوغان، وهي أنها رحلة لاستعادة وكالة البحر الأبيض عند الغرب، حتى خلافاته مع إسرائيل يمكن فهمها على أنها جزء من هذا الصراع، عندما يتكلم أردوغان عن سفن حربية تركية ترافق سفن كسر الحصار عن غزة، فلا أعتقد أنه يقوم بهذه المغامرة أو المقامرة لصالح جماعة حماس في غزة، أو لصالح الشعب الفلسطيني، إنها مجرد خطوة تعقبها خطوات للاستيلاء على الأبيض المتوسط.

في مصر وليبيا وتونس لم يظهر هلال المستقبل بعد، لم تثبت الرؤية، لم يظهر بعد اللون الأبيض من اللون الأسود، لم تتضح حتى هذه اللحظة درجة الاستقرار في البلاد الثلاثة لدرجة تطمئن معها أوروبا إلى أن المستقبل فيها لن يستولي عليه المتطرفون، وما يتبع ذلك من فوضى وتعاسة وانعدام للتنمية وقوافل الغرقى التعساء الذين يبحرون إلى شواطئ أوروبا، هذا هو ما تفكر فيه أوروبا وهذا هو ما يفكر فيه ويحاول الاستفادة منه، أردوغان.

إن تصريحه في تونس بأن الأسطول التركي سيكون له دور أكبر في البحر الأبيض، ليس أكثر من رسالة موجهة لإسرائيل: لكي تستقر الأوضاع في الشرق الأوسط.. اتفضلوا حضراتكم روحوا البحر الأحمر.. الأبيض بقى بتاعنا.

يا لتقلبات الزمان، عبد الناصر طلب يوما ما من الأميركان أن يشربوا من البحر الأبيض، وإذا لم يعجبهم عليهم بالشرب من الأحمر، ودار الزمن دورته، ليس مهما لون البحر الذي ستشرب منه.. المهم هو أن تستولي عليه.