موجة التحول الثانية في الشرق الأوسط: فرص النجاح والإخفاق

TT

في 23 يوليو (تموز) 1952 أعلن الضباط الأحرار في مصر أن الجيش استولى على السلطة، واضعا نهاية لنظام الحكم الملكي ذي الصبغة الليبرالية الذي كان قائما آنذاك. تلك كانت بداية موجة التحول الأولى في الشرق الأوسط التي جاءت بنظم آيديولوجية يلعب فيها الجيش أو الحزب العقائدي دورا بارزا، وفي تلك الموجة كان الاستقلال لا الديمقراطية هو الشعار الأساسي. خلال تجربة الحكم الملكي الدستوري في بلدان كالعراق ومصر كانت هنالك ثلاث سمات أساسية لما يمكن تسميته بالعصر الليبرالي آنذاك: إن الديمقراطية كانت نخبوية إلى حد كبير، والانتخابات الدورية كانت لعبة سياسية أكثر من كونها انتخابات حقيقية. إن الأنظمة كانت شديدة الاعتماد على القوة المستعمرة أو المنتدبة، بحيث إنها لم تشعر بحاجة كبيرة للاعتماد على الشعب الذي كان غالبيته من الأميين، وثالثا إنه مع سيطرة قوى سياسية نخبوية كانت هنالك سيطرة نخبوية على الاقتصاد في مقابل أوضاع صعبة كانت تعيشها الغالبية من الفلاحين. من جهة أخرى كان هنالك قدر أكبر من حرية الصحافة رغم قلة عدد من يجيدون القراءة، وكان مشهد سقوط الحكومة وإعادة تشكيلها يعطي بعض الحيوية للعملية السياسية، رغم أن هنالك عددا محدودا من الأشخاص هم الذين كانوا يتداورون على المناصب، فنوري السعيد مثلا شكل الوزارة في العراق 14 مرة، ومصطفى النحاس شكلها 5 مرات في مصر. وفي العموم كانت نهاية تلك المرحلة إيذانا بصعود نخب جديدة للسلطة بنت مواقفها على تحقيق الاستقلال السياسي والاقتصادي، القومية، الاشتراكية، محاربة الإقطاع والنخب القديمة.

في بداية تلك المرحلة كانت هنالك تحولات إيجابية مهمة كالتخلص من الاستعمار، وقوانين الإصلاح الزراعي، ومجانية التعليم، ورغم كل ما قد يقال عنهما من نقد، فإنه حفظ لأشخاص مثل عبد الناصر وعبد الكريم قاسم أنهما كانا نزيهين وغير فاسدين. لكن تلك المرحلة تحولت تدريجيا إلى نوع من النظم السلطوية الأمنية التي نجحت في تحقيق قدر كبير من الاستقرار السياسي والأمني، لكنه كان استقرارا بثمن غال تحول إلى نوع من الجمود المطبق في ظل غياب تداول السلطة، وحرية النقد، والحياة الحزبية، وحرية الصحافة، والشفافية. وقد بلغت هذه المرحلة أوج أزمتها حينما ترافق الطابع السلطوي – الأمني للأنظمة مع قدر عال من الفساد، وتمركز الأموال، واللامبالاة تجاه غالبية المواطنين، والاعتماد المتزايد على الخارج، وظهور شكل من أشكال الملكية غير المعلنة، حيث تتمحور السلطة حول شخص الرئيس وعائلته، أي أن هذه الفترة اتسمت بجمع كل مساوئ المرحلتين الليبرالية والسلطوية.

ما تشهده المنطقة هو مغادرة المرحلة الثانية، أو ما يمكن أن نسميه بموجة التحول الثانية. وهنا تقوم الشعارات على ثلاثة أركان، الديمقراطية، والعدالة، والكرامة. الديمقراطية التي يتم المطالبة بها ليست رغبة في العودة إلى شكل الأنظمة الليبرالية التي سادت في المرحلة الأولى، بل هنالك رغبة في ديمقراطية أكثر تجذرا وأقل نخبوية، يتم التعبير فيها عن مطالب الأغلبية من الشعب وليس الأغلبية من النخبة. أما العدالة فهي مطلب يشير إلى رغبة الطبقات الفقيرة والمحدودة الدخل ممن يشكلون غالبية أفراد المجتمع في توزيع أكثر عدالة وإنصافا للفرص وربما للثروات، ويمكن ترجمة ذلك ببناء نظام سياسي وإداري وقانوني عادل يوفر قدرا من الضمان لجميع السكان وتحقيق نوع من المساواة أمام القانون. وبالمثل يأتي مطلب الكرامة ليعكس شعورا عاما بالسخط من الأنظمة الأمنية، إنه يكافئ المناداة بتفكيك الدولة الأمنية، وبالتالي هو مطلب أكثر جذرية من إسقاط الرئيس وعائلته وحاشيته. مارست الأجهزة الأمنية في المرحلة السابقة انتهاكات صارخة لحقوق وكرامة المواطنين، بل إنها كانت أنظمة تقوم استمراريتها على استمرارية الإذلال للأغلبية. شعار الكرامة رفع في وجه ذلك السلوك الذي مارسته تلك الأجهزة، فضلا عن أنواع من الميليشيات المرتبطة بالدولة التي تمارس القمع بطريقة غير رسمية، وهي بمثابة خط الدفاع الأكثر قذارة.

الصراع الجاري راهنا والذي يتجاوز الحراك الداخلي ليلتقي بالتوازنات والتنافسات الخارجية هو في الأساس حول المدى الذي يمكن فيه لتلك الشعارات أن تتحقق وحول كيفية تحقيقها. ما يجري هو وضع حد للمرحلة السلطوية – الأمنية دون أن يعني بأن شكل المرحلة التالية قد تحدد، لذلك يمكن أن نطلق على هذه الفترة الانتقالية مرحلة ما بعد السلطوية، دون أن نندفع لتعريفها بوصفها مرحلة ديمقراطية. ففي الوقت الذي تقوم الديمقراطية على حكم الأغلبية فإن الوضع الحالي يشير إلى أن مثل هذا الحكم قد يقلق بعض التوازنات الدولية ويثير مقاومة خارجية، الأمر الذي يسهم في تسليط ضغط مقابل، وما يجري هو نوع من التفاوض بين الخارج والداخل حول الكيفية التي ستتحقق بها الديمقراطية، والمدى الذي ستقف عنده بحيث لا تضر بمصالح تلك القوى. المرحلة الانتقالية لذلك ليست مجرد مرحلة عبور، بل هي حالة سيولة داخلية وضغط شديد من الخارج لرسم ملامح المرحلة القادمة، وفي نفس الوقت هي مرحلة تكيف من الخارج للتغيرات الداخلية المحتملة. الخطر يكمن في ظهور أنظمة تعتمد مجددا على الخارج أكثر من اعتمادها على الداخل، وبالتالي لا تبالي كثيرا باحتياجات المجتمع، وخلافا لما كان عليه الحال في المرحلة الليبرالية السابقة، هنالك أغلبية من المتعلمين وأقلية من الفلاحين اليوم، مما يعني أن هنالك ضغطا أكبر من مجتمعات شابة جدا للحصول على فرص عمل وضمانات اجتماعية واقتصادية، فضلا عن مطلب حفظ الكرامة والمشاركة السياسية، وهي بدورها تعد نوعا آخر من الضغوط. فأي نظام جديد سيواجه صعوبة في إشباع تلك الرغبات، لا سيما مع الأزمة الاقتصادية الراهنة وضعف القاعدة الإنتاجية لمجتمعاتنا، مما قد يقود إلى حالة من عدم الاستقرار واستمرارية لحالة الاحتجاج التي قد تأخذ طابعا عنيفا أحيانا، الأمر الذي قد يدفع البعض ممن في سلطة القرار إلى محاولة إعادة شكل من أشكال الدولة الأمنية، من أجل إعادة السيطرة السياسية والحد من عدم الاستقرار.

في الغالب، فإن المرحلة الانتقالية لن تكون سهلة وقصيرة، وكما نرى في العراق اليوم وبعد 8 سنوات من سقوط الدولة السلطوية الأمنية ما زلنا نخوض ذات الصراعات، وما زالت الديمقراطية هشة وضعيفة، والاختراقات الداخلية كبيرة وحادة، وظروف عدم الاستقرار متفشية. بالتأكيد، إن الطابع التعددي للمجتمع العراقي يزيد الأمر تعقيدا، لكن مع ذلك فإن الضغوط مشابهة إلى حد كبير لما ستشهده جميع الدول العربية الأخرى، وفي الغالب فإننا مقبلون في معظم الأحوال على أنظمة سياسية قليلة الاستقرار، نصف ديمقراطية، ومستقبل غير أكيد.