مقالب المقالب

TT

أثارت الطرفة التي رويتها عن عبد الكريم قاسم، في أن مليونيرا أميركيا منحه مائة مليون دولار كجائزة لأحمق سياسي في العالم، بعض الاستياء بين بعض القراء. تساءل أحدهم عما حل بهذا المبلغ، وراح يثبت لنا أن الرجل مات معدما. لقد انقلب هذا المقلب علي. أنا أفهم أن من الإثم والعيب أن ينكت المرء على الأنبياء والرسل، ولكنني لم أدرك أن هذا التعميم وصل في أيامنا هذه على ما يظهر إلى رجال السياسة. وعبد الكريم قاسم يحتل في قلوب أكثر العراقيين مكانا يكاد يكون مقدسا. لا ترى صورته تظهر على الشاشة حتى تسمعهم يهمهمون بالآهات والحسرات والترحم على روحه. فدعوني أقلها مرة أخرى. لم يشهد العراقيون زعيما تولى أمرهم في تاريخهم الحديث، بل والقديم أيضا، بنزاهة هذا الرجل وإخلاصه وزهده وتواضعه، رغم أي أخطاء قام بها، وفي أولها القيام بتلك الثورة، ثورة 14 يوليو (تموز) 1958 التي أدت بالأخير إلى مقتله. فكما انقلب المقلب على المقلب، انقلب الانقلاب على القالب.

تميز عهد عبد الكريم قاسم بوصول الفكر العراقي الحر إلى أوجه. معظم الإبداعات الأدبية والفنية والفكرية الحديثة ترتبط بذلك العهد، فترة الخمسينات التي أطلق عليها العراقيون الخمسينات الذهبية. وكان أروع ما فيها تلاحم وتفاهم الطوائف والأديان والأقوام. لم يكن أي منا يفكر في مذهب الشخص المقابل أو يسأل عنه. انعكس ذلك في انتشار الزواج المختلط: سني بشيعية أو شيعي بسنية وهلمّ جرا.

جسم عبد الكريم قاسم هذه الروح. لم نسأل قط عن مذهبه عندما قام بثورته وتسلم الحكم. وأنا حتى اليوم لا أعرف حقا على أي مذهب قد نشأ ومات. بعد أيام قليلة من الثورة، سافرت من العراق وحلت بي الطائرة في مطار بيروت. هلع العساكر للالتقاء بي. «فيه واحد جاي من بغداد هون!» التفوا حولي. بادرني أحد الضباط بالسؤال: «احك لنا! شو هذا عبد الكريم قاسم؟ شو مذهبه؟» أجبته بعد شيء من التأمل والتفكير:

«يعني ممكن تقول ديمقراطي اشتراكي».

«لا مش هيك. بدنا نسأل شو مذهبه. يعني سني أو شيعي».

«آسف. والله ما أعرف!»

نظر إليّ الضابط باحتقار كرجل جاهل. في تلك الأيام، أيام الخمسينات الذهبية، لم نكن في بغداد نفكر أو نسأل عن الإيمان الديني والمذهبي للشخص. نقصد بالمذهب المعتقدات السياسية والفكرية للشخص. هل هو شيوعي، بعثي، ليبرالي، اشتراكي، قومي، وهلمّ جرا. هذا هو مذهبه.

مرت سنوات وأقمت في بريطانيا ورحت ألقي محاضرة في جامعة إكستر. ذكرت فيها عبد الكريم قاسم. سألني في المناقشة أحد الحاضرين عن المذهب الديني للرجل. اعتذرت عن عدم الإجابة. فرغم مرور عشرة أعوام، لم أعبأ بمعرفة ذلك أو أسأل عنه. بيد أن أحد الحاضرين رفع يده وقال: «كان أبوه سنيا وأمه شيعية». قلت أنت غير عراقي. من أي بلد أنت، قال فلسطيني، أليس من حقي أن أشعر بالذهول عندما أسمع بما يجري في العراق الآن؟