ليس بالتلفزيون يعيش الناس!

TT

- انت فين يا أخي؟

- الدنيا مشاغل..

- طيب يا أخي اغلط واسأل.. انت كسلان؟

- ضروري إن شاء الله أمر عليك.. ضروري!

كلام يدور بين الناس في كل وقت.. بل إن الشكوى من عدم الاتصال هي افتتاحية الحديث بين الناس.. فكل واحد يشكو من أن واحدا آخر لا يتصل به ولا يسأل عنه ولا يكلف خاطره أن يطلبه في التليفون.. مع أن هذا الذي يشكو في استطاعته أن يتصل بك وتنتهي مبررات الشكوى.. لكن الشكوى عنصر ضروري في الكلام بين الناس.. واعتاد الناس الشكوى؛ لذلك فهم حريصون على أن تظل أسباب الشكوى قائمة وهي: انت فين يا أخي؟

هل المسافة بين الناس اتسعت فجأة، أم أن المسافة بين عقول الناس تباعدت فجأة؟ هل انتقلت قلوب الناس إلى جانب آخر من الجسم؟ هل اتجهت عواطف الناس إلى أشياء أخرى بعد أن جربت التعلق بالناس ففشلت؟!

هناك عشرات الأسباب.. لكن النتيجة أن المسافة بين الناس قد تباعدت، وفي استطاعتك أن تتساءل: من الذي أعرفه من سكان العمارة.. الشارع.. المدينة؟ من الذي أعرفه من الزملاء في العمل؟ من الذي تربطني بهم صلة؟ وما معنى هذه الصلة؟ هل هي مجرد زمالة؟ هل هي صداقة؟ هل هو الشوق والحنين إذا غاب واحد منا عن الآخر؟

وأكثر من هذا.. ما الذي يربطك بالذين يعيشون معك في الشقة نفسها: أمك.. زوجتك.. أولادك؟ هناك صلات.. لكن ما شكلها؟ هل عندك وقت لأن تجلس وتأخذ وتعطي.. وتصلح ما انكسر من العلاقات الزجاجية الشفافة؟ وكيف تصلح هذه العلاقات؟ بالجلوس أمام التلفزيون؟ إن الجلوس أمام التلفزيون يحول المتفرجين إلى أناس صامتين.. لا يتكلمون.. فكأنهم في بلدين مختلفين.. السينما هي تلفزيون كبير.. يجلس أمامه الناس بالمئات ولا تربطهم أي صلة ببعضهم البعض.. والذهاب إلى مباريات كرة القدم.. إنهم يجلسون بعشرات الألوف ولكن لا صلة بينهم.. إنهم متجاورون في المكان.. إن الصلة بينهم صلة جغرافية.. تماما كما يتقارب نهر وجبل.. وجبل وصحراء.. إن الحضارة هي المواصلات.. فالحضارات كلها نشأت في وديان الأنهار؛ لأن الأنهار وسيلة المواصلات التي تربط بين الناس.. وتطورت السفن إلى بواخر.. وتطور الحمام الزاجل إلى طائرات.. وتطور الزعيق والمناداة إلى تليفون وميكروفون.. وتقارب الناس.. فهل استطاع التليفون أن يقرب بين الناس؟ لا.. لأن صلتك بالناس هي على الرف!