مراهقة سياسية.. عصام شرف نموذجا

TT

لو أنت تجولت في القاهرة هذه الأيام، فسوف تلاحظ أن صور رئيس وزراء تركيا متناثرة في شوارعها على لوحات إعلانية كبيرة، وإلى جوار الصورة هذه العبارة: «معا يد واحدة من أجل المستقبل».. والتوقيع: رجب طيب أردوغان!

وربما تكون هذه المرة، من المرات النادرة، التي يصادف فيها المرء صورا مرفوعة في بلد لغير رئيسها، أو رمز السلطة فيها.. فمن ناحيتي، كنت قد رأيتها من قبل، في جنوب لبنان، قبل نحو أربعة أعوام، وكانت صورة الخميني، مع صورة مرشد عام الثورة الإيرانية، تملأ الجنوب، في كل اتجاه، وكان من الصعب في ذلك الوقت أن تعثر على صورة لرئيس لبنان نفسه!

بطبيعة الحال، ليس من المستحب، فضلا عن أنه ليس من المقبول سياسيا، أن ترتفع صور من هذا النوع في شوارع أي عاصمة، وإذا كان لا بد من رفعها، فلتكن لرئيس البلد، أو لواحد من رموز السياسة فيه، فإذا كانت لواحد من الساسة الضيوف، فالمعقول أن تكون مصحوبة بصورة رئيس البلد ذاته، وأن يكون الاثنان في الصورة، جنبا إلى جنب، لا أن ينفرد بها الضيف وحده، كما هو الأمر في حالة أردوغان، وكأننا في أنقرة، ولسنا في القاهرة!

والشيء الأغرب، أن هذه اللوحات الإعلانية الدعائية الضخمة، ليس عليها توقيع لشركة كبيرة تقف وراءها، ولا لرجل أعمال تكفل بها، كما يحدث أحيانا، فيكون الهدف من ورائها، في مثل هذه الحالة، اقتصاديا مجردا.. فاللوحات تخلو من أي توقيع، لأي جهة قامت بها، مما يدل ضمنا، على أنها من صنع الحكومة المصرية ذاتها، أو جهات تابعة لها.. فإذا صح هذا التخمين، وهو في الغالب صحيح، كان لكل من تقع عيناه على الصورة أن يتساءل عن الغرض من ورائها، ومن وراء نشرها في شوارع قاهرة المعز بهذه الطريقة!

طبعا.. الصور كانت، إلى جانب أشياء أخرى، نوعا من أنواع الحفاوة البالغة التي لقيها رئيس الوزراء التركي، عند زيارته للعاصمة المصرية، ولقائه مع عدد من مسؤوليها، وليس هناك مانع من أن يحتفي البلد، أي بلد، بواحد من ضيوفه، بشرط أن يكون هناك هدف واضح، ومنطقي، من وراء الحفاوة، وأن يكون الهدف مفهوما للجميع، وأن يكون مضمون الحفاوة واصلا إلى الناس، وأن تكون من وراء الموضوع كله فلسفة عامة متماسكة!

ولو أن أحدا أجهد نفسه في البحث عن أهداف زيارة على هذا المستوى، فسوف يصل إلى قناعة - من خلال المادة المنشورة عن الزيارة - تقول بأن الهدف اقتصادي في الأول، وفي الآخر، بدليل هذا العدد الضخم من رجال الأعمال الذين قيل إنهم رافقوا أردوغان، وقد كان ولا يزال هناك كلام كبير، وكثير، عن آفاق تعاون اقتصادي بلا حدود، بين البلدين، وعن استثمارات هائلة، يمكن أن تصب في صالح الطرفين.. غير أن الواقع يقول، إن التعاون على هذا المستوى، يحتاج إلى ظرف سياسي موائم من نوع ما، وهو ظرف ليس متوافرا في القاهرة هذه الأيام، باعتراف القائمين على الأمر فيها أنفسهم، ثم يحتاج إلى ظرف أمني من نوع ما أيضا، وهو ظرف ليس متوافرا هو الآخر، بما يكفي، شأنه شأن الظرف السياسي الذي يعني، أولا وآخرا، أن يكون هناك استقرار سياسي يعرف معه البلد، ثم مواطنوه، أرجلهم من رؤوسهم.. وأظن، وليس الظن إثما في كل الأحوال، أن تصميم رئيس وزراء تركيا على اصطحاب حراسة تركية معه، يمكن أن يكون إشارة واضحة، في هذا الاتجاه، خصوصا بالنسبة إلى الظرف الأمني!

يبقى، إذن، البعد السياسي، في الزيارة، وهو بعد يمكن أن يكون له شقان: واحد يتعلق بعلاقة البلدين بإسرائيل، وآخر يتعلق بالتجربة السياسية القائمة حاليا في تركيا، ثم رغبة كثيرين في مصر، في رؤيتها بحذافيرها على أرض بلدهم.

وحين يتعلق الأمر بالشق الأول، فإن السؤال هو: ماذا أرادت الحكومة المصرية من وراء هذه الحفاوة البالغة بضيفها التركي أن تقول؟!.. هل أرادت الكيد لتل أبيب؟!.. وهل أرادت أن توجه رسالة إلى إسرائيل، وأن تقول هذه الرسالة، إن البلدين، مصر وتركيا، يد واحدة، في مواجهة الجار الإسرائيلي؟!.. وهل أرادت حكومة القاهرة أن تقول لحكومة تل أبيب، إن أردوغان إذا كان قد قرر طرد سفير إسرائيل، قبل أيام، فإنها، أي الحكومة المصرية، قد غضت البصر من جانبها عن اقتحام السفارة الإسرائيلية في القاهرة، في التوقيت نفسه، بما يعني إجمالا، أنه إذا لم يكن هناك تنسيق بين القاهرة وأنقرة، في خطوتي طرد السفير، واقتحام السفارة، فإن تنسيقا بينهما سوف يقوم منذ اليوم، وعلى امتداد خطوات المستقبل؟!

يجوز.. ولكن إذا كانت حكومة عصام شرف، في مصر، تفكر بهذا الأسلوب، وهي في الغالب تفكر به، لأن شواهده موجودة، وقائمة، فهذا معناه أنها حكومة أقل ما توصف به أنها مراهقة، على مستواها السياسي هذا، بقدر ما هي مراهقة على أي مستوى آخر، منذ جاءت إلى مقاعد الحكم.

ذلك أنه إذا جاز لنا، في القاهرة، أن نكيد لإسرائيل، أو أن نستفز تل أبيب، أو أن نبعث إليها برسائل من هذه النوعية، فليس هذا وقته، بالنسبة إلينا، ولا هذا هو الأسلوب، ولا حتى هناك مبرر لذلك الآن.. بالضبط كما أن الكلام عن نقل تجربة أردوغان مع السلطة إلى حياتنا السياسية، يدل على سذاجة مفرطة، ويدل على عدم وعي، وعدم إدراك، وعدم فهم، وعدم استيعاب، لا لشيء إلا لأن تجربة الرجل ابنة بيئتها، التي نشأت فيها على مدى عقود طويلة، منذ أسس كمال أتاتورك دولته عام 1923.. فالكرسي الذي يجلس عليه رئيس وزراء تركيا في مكتبه، هذه الأيام، لم تنشق عنه الأرض فجأة، ولا جاء من فراغ، وإنما كان يتشكل بوصة وراء بوصة، بفعل التراكمات السياسية، من أيام أتاتورك إلى هذه اللحظة، وكانت كل خطوة، على مدى هذه السنين، تضيف إلى تجربتهم هناك، حتى وصلوا إلى ما وصلوا إليه من تجربة سياسية لها معالمها الخاصة، ويمكن أن تكون موضع إعجاب كثيرين بيننا.

الكلام، إذن أيضا، عن إمكان نقل التجربة منهم إلينا، بهذه السهولة، يدل على خفة متناهية، ويدل على مراهقة سياسية بالغة، ويدل على أن رئيس الوزراء المصري، رجل ساذج بامتياز، وإلا.. فهل هناك رئيس حكومة تتصرف طائفة من شعبه بهذه الطريقة تجاه بلد له حدود مباشرة معه، هو إسرائيل، في واقعة السفارة، ثم يقف بسلامته متفرجا تارة، ومكافئا الشاب الذي أنزل العلم من فوق سفارة «الدولة الجار» تارة أخرى، وكأن رئيس وزراء مصر يكافئ الخارجين على القانون، ويحرّض الآخرين على الخروج على القانون!

كنت من قبل، قد وصفت شجاعة تركيا، في قرار طرد السفير الإسرائيلي، بأنها شجاعة مجانية، لأنها شجاعة لا تكلف صاحبها شيئا، واليوم أصف سلوك حكومة عصام شرف، في استقبال صاحب قرار طرد السفير، بأنه مراهقة سياسية مضحكة، لأن «شرف» كان يتصرف مع الضيف التركي دون أن يعرف ماذا يفعل، ولا ماذا يريد.. وتلك مأساة في حد ذاتها!