والثورات العربية عليها تنازلات مؤلمة

TT

ثورات الربيع العربي أظهرت في ما أظهرت من مخرجات كثيرة، كما أشرت في مقال سابق، نفوذ وقوة التيارات الإسلامية، وقلت في ذات المقال إن هذه المحصلة لا تعني استفرادهم بالساحة حتى ولو سيطروا برلمانيا، وذكرت بأن عليهم أن «يقدموا تنازلات مؤلمة» حتى يندمجوا بالكامل في العملية السياسية بكل تشابكاتها وتعقيداتها. وأؤكد في هذا المقال اليوم ذات الشيء عن الحكومات، إذ لا يمكن أن يُكتب لها استقرار كامل إلا إذا قدمت هي الأخرى «تنازلات مؤلمة» من المؤكد أنها ستتعارض مع توجهها الليبرالي. الخطأ الكبير الذي أسرع بتهاوي النظامين التونسي والمصري، من ضمن أسباب أخرى، هو حالة الخصومة الشديدة، لا أقول مع الحركات الإسلامية ولكن مع الشريحة المحافظة التي تمثل الأغلبية الكبيرة في البلدين.

وحين أتحدث عن مصطلح «تيارات» لا أعني بها الحركات الإسلامية التقليدية المعروفة مثل الإخوان والسلفيين والتبليغ وغيرهم فحسب، بل يشمل أيضا المنتمين إلى المؤسسات الإسلامية الرسمية وغير الرسمية كالعلماء والمشايخ والدعاة، لكن بطبيعة الحال تظل الحركات الإسلامية الأقوى نفوذا والأكثر تنظيما وفي الغالب الأقدر على تحريك الشارع والتأثير فيه. ومن هنا تبرز أهمية عقد صلح كبير مع هذه التوجهات ودمجها في الأنظمة الجديدة، لأنها - أحبت الحكومات أم كرهت - صارت قدرا جغرافيا في تركيبتها، لا بد أن تستوعبه وتتعايش معه كما تستوعب جبالها وسهولها وصحاريها وأجواءها.

لا بد أن تدرك الحكومات العربية الموجودة أو التي انبثقت من رحم الثورات العربية أن كل حالة خصام مع الحالة الإسلامية معناها أن تضخ في رصيد منافسيها من التيارات الإسلامية معتدلها ومتشددها مزيدا من التأييد الشعبي، وكلنا يتذكر أن الإقصاء الذي مارسته السلطة الفلسطينية مع منافسيها كحركة حماس، صب في مصلحة الأخيرة فكانت شعبيتها ساحقة، ونرى أن جارتها الأردن التي تعايشت بنسبة معقولة مع التيار الإسلامي ومنحته بعض الامتيازات جعل التيار لا يحصد في الانتخابات إلا نسبا لا تتجاوز العشرين في المائة.

إن الخطأ الجسيم الذي ارتكبته الأنظمة التي تهاوت هو في حالة الانفصام النكد بين القمة والقاعدة، بين ممارسات الحكومة وحالة الشارع. مثلا، الإعلام في تلك الدول بانفتاحه المفرط أحيانا جعل عامة الناس يشعرون وكأن إعلامهم الذي يخاطبهم يمثل شعبا آخر، فأصبح في العرف الإعلامي في بعض الدول مثلا أن تكون المذيعة بأدنى متطلبات الستر، مع أنها إذا أرفقت في برنامجها تقريرا عن الشارع وجدت الأغلبية الساحقة لابسات الحجاب. كم نسبة تمثيل هذه الشريحة في الإعلام الحكومي بفضائياتها وصحفها وإذاعاتها؟ هذا مثال بسيط جدا تعمدت طرحه لتوضيح الصورة، وإلا فهناك ملفات أهم لم يراعَ فيها توجّه الشعوب كما في الشأن السياسي والتعليمي والاقتصادي والاجتماعي والفني.

إن تجربة حكومات دول الخليج مع التيارات الإسلامية ليست مثالية لكنها معقولة، وهي وإن تفاوتت من دولة إلى أخرى لكن يجمع بينها في الغالب عاملان رئيسيان، الأول عدم المصادمة الشديدة للحالة الإسلامية، فلا مراقص وحانات خمر ولا ملاهي (مع وجود استثناءات مؤسفة جدا لا تتواءم مطلقا مع طبيعة أهلها المحافظة)، الثاني قدرة هذه الدول، مع اختلاف تجاربها، على استيعاب التوجهات الإسلامية في مكينتها الحكومية وإطلاق يدها في العمل المدني كالمؤسسات الخيرية، ومن أكثر النتائج الإيجابية لهذا «الدمج» أنها مايزت هذه الشريحة الإسلامية الكبيرة والمعتدلة من أصحاب التوجهات المتشددة من التكفيريين والإرهابيين.

[email protected]