ولادة «افتراضية» للدولة العباسية

TT

تاريخيا، الدولة العباسية ولدت على أكتاف الدعاة. ها هي دولة عباسية أخرى تولد ولادة «افتراضية» قيصرية، على أكتاف الدعاة.

لم تعد مهمة الدبلوماسية أداء إجراءات العلاقة الروتينية بين دولة ودولة. مهمة الدبلوماسية اليوم اختراق الرأي العام، للترويج للمشروع السياسي للدولة. الدبلوماسية الفلسطينية الرسمية والشعبية تقدم درسا للدبلوماسية العربية. فقد استطاعت خلال الـ25 سنة الأخيرة كسب الرأي العام العالمي (باستثناء الشارع الأميركي)، لصالح قضية عادلة. ساعدها على ذلك عشرات ألوف الشباب الفلسطينيين والعرب الدارسين. والمقيمين خارج الوطن، ومئات جمعيات الصداقة والروابط والاتصال الشعبية.

على هذه القاعدة الدبلوماسية العريضة التي عزلت إسرائيل، وحيَّدت خطر الهيمنة اليهودية على الرأي العام العالمي، يذهب محمود عباس، هذا الأسبوع، إلى الأمم المتحدة، للحصول على اعتراف بدولته الفلسطينية، متحديا الولايات المتحدة. لا أدري ما إذا كانت الضغوط الأميركية الهائلة ستنجح في إقناعه بالتراجع.

باراك بن حسين أوباما هو الخاسر. لأسباب انتخابية. يهودية. إسرائيلية، فهو في ضعفه وتردده، مجبر على استخدام الفيتو في المخفر الدولي (مجلس الأمن). هذا الفيتو سوف يمنع «الجمعية العمومية» من الاعتراف بالدولة الفلسطينية. موقف أوباما يتناقض مع مجاملاته وتعهداته، بتعامل أميركي، على أساس الفهم والعدل، مع العرب والمسلمين.

تحت ستار هذه الوعود، صعّد أوباما حرب سلفه بوش في أفغانستان وضد باكستان. وتراجع أمام حكومة اليمين الديني والصهيوني في إسرائيل، عن إلحاحه على تسوية الدولتين. ووقف الاستيطان. وعن المضي في المفاوضات، على أساس حدود 1967. تاركا حكومة نتنياهو تماطل الفلسطينيين، ريثما يتم انتخاب رئيس أميركي جمهوري بعد عام، بديلا لأوباما الذي فقد ثقة الأميركيين وحزبه، كرئيس حازم وحاسم.

أوفد أوباما وسيطه اليهودي المخضرم دينيس روس، لإقناع عباس بصرف النظر عن الحضور إلى نيويورك، فيما سيسعى الفلسطينيون، بعد الفيتو الأميركي، إلى الحصول، على الأقل، على صفة «عضو مراقب» من الجمعية العمومية، أسوة بدولة الفاتيكان التي تراقب. ولا تصوِّت.

كان النمر الفرنسي كليمنصو يعتبر بابا الفاتيكان عضوا غير فاعل. الدولة العباسية التاريخية لم تفقد نشاطها، إلا في منتصف عمرها. خير لعباس أن يذهب. لا أن يتراجع. خير له أن يحصل على رتبة «مراقب» من أن يخسر شعبيته، ومصداقيته الفلسطينية والعربية. الدبلوماسيان الأوروبيان المخضرمان مارتي اهتيساري وخافيير سولانا يقدمان عشرة أسباب، لتصويت أوروبا بـ«نعم»، للدولة العباسية. ذلك، بعد «استقبال الأبطال» الذي حظي به ساركوزي وكاميرون في شارع الانتفاضة الليبي. وحدها المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل مترددة لولعها الغريب بإسرائيل!

لكن ما هي انعكاسات مرور مشروع الدولة العباسية في قنوات الحكومة العالمية؟

الوضع في المنطقة العربية ازداد توترا. تركيا مع الدولة العباسية. رفض أردوغان زيارة إخوان غزة، إلا برفقة عباس. جبهة إيران. حزب الله. حماس. الجهاد. سوريا وجدت نفسها إلى جانب إسرائيل ضد عباس! وضد الاعتراف الدولي بالدولة الفلسطينية. بل أحرج أردوغان المرجعية الإخوانية المصرية المتزمتة، عندما أعلن أن الإسلام لا يتعارض مع الديمقراطية العلمانية. وها هو يهدد باستخدام الأسطول التركي، لإحباط المشروع الإسرائيلي. القبرصي. اليوناني، لاستغلال واحتكار نفط شرقي البحر المتوسط.

في هذا الوضع، تجد إسرائيل نفسها في عزلة دولية وإقليمية. طُرد. أو فرَّ سفراء إسرائيل، في تركيا. مصر. الأردن. اتفاقات أوسلو. كامب ديفيد. وادي عربا، قد تعصف بها انتفاضة الشارع العربي. نجح عباس وسلام فياض في إرساء البنى الأساسية للدولة الفلسطينية. ووطّدا الأمن في الضفة، بحيث لقيا قبولا دوليا أكبر.

سوء توقيت إيران لعملية إيلات التي قامت بها منظمة «الجهاد» انطلاقا من غزة، وبموافقة حماس على الأرجح، لم يقطع طريق نيويورك على عباس. ولم يخدم إسرائيل في تقديم العنف الفلسطيني كذريعة، لحث الجمعية العمومية على عدم الاعتراف.

بل أدى استخدام إسرائيل العنف المفرط، سواء في «استئصال» جماعي لقادة العملية في غزة، وسابقا في قتل الأتراك التسعة في البحر، ثم في قتل ستة عسكريين مصريين على الحدود، إلى اجتياح شباب الانتفاضة المصرية السفارة الإسرائيلية في القاهرة، وإلى مزيد من الإحراج لأوباما، بطلب وساطته لدى المجلس العسكري المصري، لإنقاذ الدبلوماسيين الإسرائيليين الستة المحاصرين.

مع يأسه من المسيرة السلمية التفاوضية التي تبناها منذ أوسلو (1993)، اكتشف عباس باب الاعتراف الدولي. أقول إن هذا الخيار (الذي اعتبره أردوغان واجبا) قد أحرج أميركا وإسرائيل.

وكان الإحراج من رجل لم يكن متوقعا أن يتحرك، في ذروة العزلة الإسرائيلية. وفشل أوباما الداخلي.

إسرائيل قد تلغي أوسلو. قد تمتنع عن سداد المال الفلسطيني المجمد في خزينتها. أميركا تهدد بقطع الدعم السنوي (600 مليون دولار سنويا). لكن هذه الإجراءات سوف تزيد في غضب العالم على إسرائيل، وفي هز استقرار الضفة والسلطة أمنيا. فأميركا هي التي تدرب وتمول كتائب عباس الأمنية.

إلغاء أوسلو قد يؤدي إلى انهيار السلطة الفلسطينية. عندها، يتوجب على إسرائيل أن تموِّل الإنفاق الكلي على احتلالها الضفة. وإعاشة الفلسطينيين. أو أن تترك حماس لتستولي على الضفة بعد غزة.

لكن إسرائيل لا تستطيع حبس عباس، كما فعلت مع عرفات. أو كما فعل المماليك بخلفاء الدولة العباسية. كان عباس صادقا في الرهان على مفاوضات فاشلة، ومقاومة سلمية. عباس غير عرفات الذي راهن على ازدواجية العنف والسلم، في التعامل مع إسرائيل.

أحسب أن عباس (77 سنة) اتخذ قرارا حاسما. بإنهاء حياته السياسية، بعد يأسه من رهانه التفاوضي، ومن تجاوب أميركا وإسرائيل معه. وهكذا، أراد عباس أن يختم مسيرته السلمية الطويلة، بمبادرة تحفظ له الاعتبار. والاحترام. والثقة، لدى شارع فلسطيني مسَّيس أو شديد الشك والحساسية إزاء زعمائه. المشكلة أن عباس لم يترك وريثا. الفراغ سوف تملأه الفوضى، أو الصراعات على خلافة الدولة العباسية.

مغامرة عباس الدولية قد تنقلب إلى مقامرة خطيرة على الحاضر والمستقبل الفلسطينييْن، إذا لم يستطع ضبط سلمية الشارع الفلسطيني. فقد دعا إلى انتفاضة سلمية (الفلسطينيون هم الذين اخترعوا تقنية الانتفاضة السلمية 1987). مجرد مسيرات عباسية داخل المدن. بلا احتكاك بحواجز الحصار الإسرائيلي. بل أكد أن الذهاب إلى الأمم المتحدة لا يلغي العودة إلى مائدة المفاوضات، للتوصل إلى حل نهائي.

أميركا. أوروبا. مع استئناف المفاوضات الثنائية. توني بلير الذي ألقته اللعبة الدبلوماسية مبعوثا للجنة الرباعية (من دون موافقة عربية، بعد دوره المخزي في حرب العراق) يساند دينيس روس في الضغط على عباس. وحتى جيمي كارتر (87 سنة) عرّاب كامب ديفيد يدعو إلى انسحاب إسرائيلي من الضفة والجولان، بوساطة تفاوضية دولية / أميركية. يرفض كارتر الاعتراف بيهودية إسرائيل، أو مرابطة قواتها على حدود الضفة مع الأردن. لكن يستعيض عنها بقوات الناتو. أو قوات دولية للمرابطة «في فلسطين»!

وداعا عباس! أهلا بالدولة العباسية. حتى ولو كانت «ميني» دولة.