زرع.. حصد.. هبل.. قتل!

TT

إنها بداية الموسم الدراسي في البلاد العربية، ولكنه موسم دراسي بنكهات «مختلفة» هذه السنة؛ ففي السعودية يتحدثون عن اختراق خطير لمنهج إحدى المواد «يحذر من الابتعاث»، ومن «التأثر بأفكار وتعاليم الغرب والعودة بمبادئ المستشرقين للبلاد»، وخطورة هذا الاختراق أنه يجيء والسعودية تقوم بأكبر برنامج ابتعاث لطلابها إلى الكثير من دول العالم وجامعاتها، رغبة منها في التواصل الثقافي مع الأمم الأخرى والانفتاح العلمي، بعد سنوات من الانعزال والانغلاق والتقوقع كانت مضرة على المجتمع وعلى الشباب فيه.

وأحدث هذا الاكتشاف نوعا من الصدمة التي لا تزال تلقى التعامل النقدي المطلوب. وفي مصر منشغلون تماما بتعديل المناهج وحذف كل ما له علاقة بفترة حسنى مبارك، وضرورة الإشارة إلى أنه تم خلعه «بسبب» ثورة 25 يناير، وحذف كل إشارة لزوجته سوزان مبارك ودورها الاجتماعي أو الثقافي سابقا، مع ضرورة إبراز حقبة الرئيس المصري الأول لثورة 1952، محمد نجيب، الذي أجرم في حقه جمال عبد الناصر وخانه وانقلب عليه ووضعه تحت الإقامة الجبرية، ومنع ذكر اسمه وإبراز أي إنجاز قام به، وتبعه في ذلك أنور السادات وحسني مبارك بدرجات أقل.

وفي ليبيا، هناك مجهود كبير جدا لأجل تطهير المناهج من تلوث أفكار الجماهيرية وزعيمها غريب الأطوار، معمر القذافي، التي أسهمت في إيجاد بيئة تعليمية منغلقة ومتخلفة عن العالم، تحولت إلى مثار للنكات والطرائف بامتياز، وسيتم تنقيح المناهج والنظام التعليمي من كل ما له علاقة بالكتاب الأخضر، الذي كان المرجعية الفكرية لمبادئ معمر القذافي، وحاول عبر عقود من الزمن أن يغسل بها دماغ الأجيال الليبية.

وفي اليمن، يقضي شبابه الأيام والليالي يحاولون أن يكون لديهم الإحساس بأن الأمور تسير بشكل عادي، ولكن النظام الموجود هناك يصر على تعطيل الحلول السلمية لإخراج البلاد من محنتها والعودة للوضع السياسي الطبيعي، فعلي عبد الله صالح لم يتعلم أو يتعظ، ولا يزال مهووسا بتوريث الحكم لابنه أحمد؛ لم يستفد من تجارب عدي في العراق، ولا جمال في مصر، ولا بشار في سوريا، ولا سيف في ليبيا. المدارس في اليمن بؤرات من التوتر تعكس حال البلد كله المتوتر والمضطرب بشكل خطير جدا.

ولكن تبقى سوريا الحالة الأعجب؛ فنظام الأسد البعثي حول المدارس عبر السنين إلى معامل تفريخ ومختبرات لغسل العقول، تكرس فيها فكرة تأليه الحاكم وتقديس الحزب وعبادة معتقداته وأهدافه وسياساته وتوجهاته، وتم عبر السنين تشكيل «فرق» معسكرة فكريا لخدمة الحزب بمسمى «الشبيبة» و«الفتوة» تؤدى في صفوفها التمارين شبه العسكرية، وتردد الهتافات بشكل هستيري ممجدة في الرئيس، وطبعا هناك مادة معينة للتربية القومية محشوة بالهراء من «أقوال السيد الرئيس»، وهو كلام حشو لا يغني ولا يسمن من جوع، كلام ممطوط لا معنى له، شبيه بالخطابات الخشبية لمؤتمرات حزب البعث، التي يمتد الواحد منها إلى اثنتي عشرة ساعة في اليوم الواحد، وطبعا الطالب مفروض عليه أن يحفظها عن ظهر قلب ولا يُغفر له الخطأ في النص، ولا الابتعاد عن فهم مغزى الخطاب والمعاني والنتائج المقصودة لكلام سيادة الرئيس، وطبعا كانت المدارس معقلا متوقعا لمنسوبي الاستخبارات لمعرفة الأخبار من الطلبة عن أفكار أهلهم وتوجهات الطلبة أنفسهم، ولكن صدمة النظام السوري الهائلة في أن ثورة سوريا اليوم هي بقيادة الشباب الذين حاول النظام لسنين غسل أدمغتهم بأفكار بالية واهية كاذبة، ومبهرة مشاهد الشباب والأطفال من كافة الفئات العمرية وهم يصيحون بنفس واحد «سوريا بدها حرية» أو «الشعب يريد إسقاط الرئيس»، وحول النظام القمعي المدارس أنفسها إلى معتقلات تمارس فيها أبشع أنواع التعذيب والمهانة، كما ظهر في المشاهد المصورة المسربة.

وهناك غياب عن الحضور والامتناع عن ترديد الهتافات الممجدة للرئيس التي يُجبر الطلبة على ترديدها، ورفعوا بدلا منها شعار «لا دراسة ولا تدريس حتى يرحل الرئيس»، مما جعل النظام يتفاعل خوفا مما يحدث، ويصدر قرارا بمعاقبة ولي أمر الطالب المتغيب ليوم واحد بألف دولار أميركي، وهي مسألة مضحكة لنظام يقوم بقتل الأطفال أصلا.

التعليم كان ولا يزال وسيلة قمعية في العالم العربي، والمدارس هي المسرح الأليم له، وفي منطقة 60 في المائة من سكانها من الشباب؛ إذا لم يستشعروا الكرامة والحرية والآدمية، فسيغيرون هم واقعهم ويطلبونه.

[email protected]