تحية إلى علم

TT

تأملوا المشهد الذي لا يصدق: إسرائيل في أضعف حالاتها منذ 4 حزيران 1967، وفلسطين في أقوى مواقفها منذ 5 حزيران 1967، والعالم العربي لم يخرج من 5 حزيران 1967، الجبهة الشرقية، أي مصر وسوريا والأردن، في جمود دبلوماسي وتجمد عسكري، والقمة العربية في غيبوبة، ودولتا الصمود والتصدي، أي ليبيا والعراق، تتصديان في حماية أميركا والحلف الأطلسي.

جميع الجيوش العربية، في دول الصمود وفي دول التصدي وفي دول المواجهة وفي دول الطوق وفي دول سائر التسميات الطنانة، إما تقاتل في الداخل أو متأهبة على الداخل. عدو الأنظمة الحقيقي هو من اعتقدت دائما أنه عدوها، ومن أعدت جيوشها دائما لمحاربته: الشعب! وعندما كانت تغني للشعب وتعد له الخطابات وتكلف أصحاب العبارات المعقدة والسقيمة أن يلهوه، كانت تكذب عليه. الشيء الوحيد الذي أعدته له بصدق هو السوط، والحرية الوحيدة التي أعدتها له هي الجزمة.

من يرَ شيئا آخر فليلفتنا إليه. لذلك ليس لدينا ما نفرح به سوى شجاعة هذه الدولة المقطعة المزروعة بالمستعمرات. وكم نفخر بهذا الشعب المسكين والشجاع، الذي أبقى قضيته حية منذ مائة عام، رغم تحامل دول العالم وتغافل دول العرب.

مذهل هذا الذي يحدث اليوم: السقوط الفعلي للعرب والقيام الحقيقي للفلسطينيين: بعد نصف قرن على خروج الاستعمار، ما نزال في الشوارع نطالب ببديهيات الأرض. وما زال الجيش اليمني والجيش السوري والجيش الليبي يزرعون «الشارع العربي» بالشهداء. وما زالت اللافتات هي تلك التي رفعتها شعوب العالم في الثلاثينات والأربعينات.

العرب يقتلون في كل مكان إلا على الجبهة. وضحايا المظاهرات ضد إسرائيل أقل بكثير من ضحايا المظاهرات ضد الأنظمة. ولم نرَ في فلسطين مشهدا مثل مشهد صنعاء يوم الأحد الماضي. بالأكياس حملوا الجثث. وبالحاويات تعفنها كتائب هنيبعل.

تحية إلى شجاعة محمود عباس وتحية إلى ما صبر وما تحمل، خصوصا من أقرب الناس ومن العرب. وإذ تدخل فلسطين إلى الأمم المتحدة على عكازات وملفوفة بالضمادات، تحية طيبة إلى ذكرى شهيدها الأول. إلى الرجل الذي عانق الجميع وقاتل الجميع وضحك على الجميع وضحك من الجميع وصافح الجميع وطلب شيئا واحدا هو فلسطين.

سوف تتذكر فلسطين ياسر عرفات ذات يوم كما ينبغي أن تتذكره: الرجل الذي أتعب جميع الناس ولم يتعب. وذهب مريضا إلى موته وهو يضحك ويرسم شارة النصر. وأمضى العامين الأخيرين من حياته يحاصره أرييل شارون ولا يرسل إليه العرب حتى التحية. البعض كان يرسل إليه طبخة يحبها، وكان يدعو إليها حرس «المقاطعة»، وزواره. أي الإسرائيليين بزعامة يوري افنيري، الذين يجرؤون وحدهم على إلقاء التحية.

تحية إلى العلم الفلسطيني أخيرا في الأمم المتحدة، بعد كل هذه الجولة الدامية والمضنية.