موسم صناعة الدساتير!

TT

أمة العرب من أقصاها إلى أدناها تصنع الدساتير، وبعد أن كانت تعد البيانات والمواثيق الوطنية والإعلانات الثورية والقوانين الاستثنائية من المحيط إلى الخليج أصبحت كلها الآن مهتمة بالفنون القانونية، والنظم والملكيات الدستورية. وما بين الماء والماء، كما كان يقال، تعددت الخبرات، ما بين النظم البرلمانية وتلك الجمهورية، وما جلس عربيان إلا وكان بينهما ثالث، وهو دستور الدول الديمقراطية وأحكامها الشرعية. وما بين ما هو مشروع وشرعي، تعددت الأحكام والمقتربات، وهل يكون الدستور بعد الانتخابات أم قبلها؟ وأين من بين قواعد الحكمة يأتي اختيار رئيس البلاد وحاكمها؟ وهل المهم هو استمرار الدولة أم بقاء الثورة؟ وكيف يتسنى بين هذا وذاك توزيع السلطة والثورة؟

الأسئلة كثيرة وصعبة، لكنها جاءت كلها في أعقاب «الربيع العربي»؛ حيث بات الربيع لا يصح إلا وكان معه دستور. وبعد أن كان «البحتري» يقول إن الربيع الطلق قد أتى يختال ضاحكا من الحسن حتى كاد أن يتكلما، فإنه أتى هذه المرة وهو يحمل معه دستورا جديدا أو دعوة لصناعة دستور محكمة مواده، وعادلة منطلقاته ومبادئه، وحكيمة نهاياته وتطبيقاته.

التغير عميق ولا شك؛ ففي أمة لم يعرف بعضها الدستور، أو عرفت نوعا من «القوانين الأساسية» أو «الإعلانات الدستورية»، أي تلك التي تنظم الأمور بشكل مؤقت حتى تأتي الأوقات الملائمة لإقامة الدساتير الدائمة؛ فإن سريان الرياح الدستورية بمثل هذه السرعة هي شهادة على أن البركة حلت بالبلاد العربية، حتى إن بعضها أصبح الآن يعد بدستور لا يأتيه باطل خلال بضعة شهور لا زادت ولا قلت.

الأمر فيه بشارة لا شك فيها؛ لأن «القاعدة الدستورية» سوف يكون لها سبق على «القرارات الثورية» ذات الشرعية الفردية، لكن المعضلة أن هذا الاندفاع الدستوري يجري قبل طرح السؤال البديهي حول «هوية الدولة» ومن ثم نجد «الطريق الدستوري» يتعثر بعد خطوات قصيرة من إبداء النوايا الطيبة. وما زلت أذكر أنه في الأسابيع الأولى من الثورة المصرية كان هناك من يقول إن الأمر الدستوري لا يحتاج إلى معاناة كثيرة، بل إن بضعة أيام كافية للاختيار من قائمة طويلة من دساتير أعدتها الجماعة القانونية بكرم بالغ، وبعضها الآخر كان مجرد تعديلات بسيطة في دستور عام 1923 فتعود الأيام السعيدة للعصر الليبرالي، والذي يريد العصر الثوري فما عليه إلا أن ينفض الغبار عن دستور أعده فقهاء القانون في عام 1954 بناء على طلب مجلس قيادة الثورة الذي كان قد وعد الناس بدولة جمهورية دستورية خلال عامين من توليه السلطة العامة. ولكن ما جرى أن العامين ذهبا، وبعدهما بقي مجلس قيادة الثورة في السلطة ونسي الجميع ما جرى للدستور، حتى إن أصحابه وضعوه مع «القمامة» حتى وجده بطريق الصدفة الكاتب الكبير صلاح عيسى فصار مع زمن الثورة من الثروات القومية التي تنافس ما تركه الفراعنة من كنوز.

لكن ليس بمثل هذه الطريقة تطرق الموائد، والجماعة والنخبة والثوار من كل لون لهم طرائق مختلفة إلى المسألة الدستورية. وكانت الأزمة الأولى في التجربة المصرية شكلية في أولها، وهي عما إذا كان واجبا وضع الدستور أولا أو تجرى الانتخابات للجمعيات التشريعية في البداية. لكن في آخرها كان الأمر موضوعيا، أي سياسيا في الجوهر؛ لأن جماعة الإخوان المسلمين - ومن ورائها طابور طويل من جماعات الإسلام السياسي - كانت ترى أن تكتسح الانتخابات أولا ومن بعدها تشكل الجمعية التأسيسية التي تضع الدستور على مقاس هوية الأمة.

الليبراليون فهموا الموضوع، ومن ثم جرى الشد والجذب، حتى حسمته تعديلات دستورية تركت مسارها الدستوري لكي تحدد طريقها الإجرائي، ومن ثم كانت الانتخابات أولا، وبعد شد وجذب آخر، وعلى سبيل المراضاة جرى الاتفاق على نوع من الوصاية الدستورية «الاسترشادية». وهكذا غلبت القسمة، والعبرة بعد ذلك في النية، وبات واضحا أن الأمر كله يتعلق بالعلاقة بين الدين والدولة في المسألة الدستورية، وهي قضية جوهرية حاول فيها السيد رجب طيب أردوغان أن يستغل مطالبة الإخوان له بعودة الخلافة الإسلامية في أن يقترح «مرجعية علمانية» للدولة، فما كان من الإخوان ومن والاهم إلا أن اكتشفوا فجأة أن الرجل، ومعه تركيا بالطبع، تدخل في الأمور الداخلية المصرية التي يجب أن تظل مصونة وعفيفة لا تمس.

القضية جرت وراءها قضايا كثيرة لا تقل جوهرية، طرح بعضها همسا، وبعضها الآخر علنا، فمركزية الدولة أو لامركزيتها مسألة ضرورية، لحسن الإدارة وجلب المنفعة، لكن الخوف قائم من الانقسام إلى دول وولايات، أقسم الجميع إنها قائمة على وحدة لا يغلبها غلاب حتى جاء وقت القسمة ليكتشف الجميع أن الوحدة ليست بهذا الشغف المتصور. لكن وراء الموضوع قصة أخرى لها علاقة بهوية الدولة، وهي مدى تدخل السلطة في إدارة الاقتصاد والمجتمع، فالأصل في الدولة والمواطنة أن المواطن حر فيما يعمل به، مقابل حماية الدولة فإنه يدفع الضرائب، وطالما يدفعها فمن حقه الرقابة عليها من خلال تمثيل الأمة في انتخابات شرعية ونزيهة. لكن المسألة البسيطة في تراث الدول تصير لدينا معقدة؛ لأن الدولة والمواطن ليس لديهما حماس كبير لموضوع الضرائب، ومن ثم يصبح التمثيل والمواطنة موضع شك. ويصبح الشك يقينا إذا كان المواطن يريد من الدولة أن تعتني به من المهد إلى اللحد، وساعتها فإن الحديث عن التمثيل، والديمقراطية أيضا، من الأمور المغالى فيها، والتي تأخذ المثل من بلدان أجنبية ليست لها خصوصيتنا الخاصة جدا.

وهكذا تتوالى الأسئلة الصعبة حول هوية الدولة وجوهرها وعلاقة «المواطن» بها، وهي أسئلة تفرض أسئلة أخرى لا تقل صعوبة، حول نظام الحكم على سبيل المثال، وعما إذا كان النظام رئاسيا أو برلمانيا.. الأول ليس مفهوما كثيرا لدى النخبة والعامة، وهناك بعض من حنين لنظام برلماني عرفته بلدان عربية في أزمنة قديمة جرى تصور زائف أنه كان حقيقيا وقائما بالفعل. ولما كان الثاني تتكشف مساوئه فإن النتيجة الطبيعية التي تفضلها الأمة أن يجرى التلفيق بين النظامين فيما عرف بالنظام «البرلماسي» الذي أتى من الثقافة الفرنسية السائدة بين فقهائنا. لكن المشكلة أن هذا النظام هو ما كانت الأنظمة التي تمت الإطاحة بها توا تتباهى بأنها تسير على طريقه بعد إعادة تفصيله لكي يتناسب مع ظروفنا التي لا يعرفها أحد غيرنا. وما دامت «البرلماسية» سائدة في باريس فهل يوجد إلا من قبيل المزايدة من يتصور أنه يستطيع منافسة باريس حيث النور والأناقة والعدالة والحرية والأخوة والمساواة؟ وبعد هذه المقدمة التي كان لا بد منها، تعالوا ننتظر صدور الدساتير العربية!