الثورة والخيال القبيح

TT

هل نريد أن نبني مصر من أحجار الغرانيت التي ترسم معالم مصر القديمة من معبد أبو سنبل حتى الأهرامات وبينهما الكرنك العظيم، أم نريد أن نبنيها من القبيح من السيراميك؟

قبل الثورة بأيام انزلقت قدماي وأنا داخل إلى معبد الكرنك وسقطت أرضا، وتشاءمت للحظة من هذا السقوط ورأيت فيه فألا سيئا، ووقفت ودعوت في بهو المعبد على من كان السبب في كل هذا القبح. لم يكن الانزلاق بسبب لعنة الفراعنة ولكن كان بلعنة الخيال القبيح الذي تملك عقل محافظ الأقصر السابق كما يتملك الجن من رجل ملبوس، سقطت على الأرض لأني لم أكن اعتدت أن أمشي على السيراميك والرخام الحديث الذي عبدت به مداخل معبد الكرنك. كيف يوضع السيراميك جنبا إلى جنب مع الأحجار الغرانيتية الأصلية التي عمرها آلاف السنين، والتي بني منها هذا المعبد الأسطوري. كنت مهيئا نفسيا أن أمشي على الغرانيت القديم، فهذا الذي عرفته قدماي منذ الصغر، ولم أعتد ذلك الملمس للسيراميك. في ذلك التراص والتناص بين السيراميك القبيح والغرانيت القديم قدم مصر (التناص يعني وجود نص مكتوب إلى جوار نص آخر) مضيعة للجمال، إذ في تلك المعادلة دائما ما يطغى القبح على الجمال، وهذا ما نراه اليوم في الكرنك. أنا لا أدين المحافظ السابق، فلا فائدة من إدانته ولا طائل، ولكنني أعجب للحظات في تاريخنا كان يصفق فيها بحرارة لصناعة القبح على أنها تنمية وإنجاز. ترى لماذا تسيطر على بعض المصريين بل النخبة منهم أو من يمتلكون الإعلام والحكم تلك الرغبة الدفينة في الانجذاب إلى القبيح والغرق فيه بينما يحيطهم الجمال من كل صوب لكل ما هو أصيل وأصلي وتعمى أبصارهم عنه؟ ترى كيف يجرؤ المرء على أن يرص بلاط السيراميك إلى جانب كل هذه العظمة التاريخية في الكرنك؟ أي تعليم وأي ثقافة وأي ذوق عام أوصلنا إلى هذا الخيال القبيح؟

الخيال القبيح عندما يتملك ممن يحكمون البلد، يحول مصر من تلك السيدة الأنيقة بنت الأصول إلى «رقاصة بلدي»، وأنا هنا عمدا أكتبها «رقاصة» لا «راقصة» لما للكلمة من مدلولات تدغدغ فينا تلك النزوات البدائية الحقيرة، وهذا ما حدث في الأقصر ويحدث الآن في بر مصر، وما حدث في الأقصر رمزي لما حدث ويحدث في البلد حتى بعد 25 يناير. إذ إن هناك إصرارا لدى السوقة من القوم ممن تملكهم خيال القبح على أن يحولوا هذا البلد القديم قدم الزمان إلى رقاصة بلدي تلبس المزركش الرخيص بهدف الإبهار والزغللة من بعيد ومتى ما اقتربت اكتشفوا الفالصو في القماشة وفي الزينة.

امتلأت الأقصر وطرقاتها بتلك التماثيل الزائفة للفراعنة في الشوارع على حساب تلك التماثيل الأصلية في معابد الأقصر. فكيف يصل خيال رجل إلى كل هذا القبح ليزاحم التماثيل الخالدة والقديمة قدم الزمان والمنحوتة بتلك المهارة المبهرة، بكل هذا الزيف؟ وما دهانا أيها المصريون كي نصفق لكل هذا القبح؟

ذلك كله كان من سمات عهد الزيف وعهد الخيال القبيح الذي صفقت له صحافتنا وتلفزيوناتنا وقدم له على أنه تنمية لذلك البلد الصعيدي المتخلف من وجهة نظرهم. لم يكن البلد متخلفا من هذه الناحية، ولكن ما خلق هذا التصفيق الحاد هو تلك الفجوة ما بين ثوب الأقصر القديم قدم الزمان والمرصع بكل ما في هذا البلد العظيم من جواهر العبقرية القديمة، وثوب رقاصة بلدي من شارع الهرم لا شارع محمد علي، فحتى رقص شارع محمد علي البلدي كانت له أصول، غير تلك الزغللة القبيحة التي أنتجها شارع الهرم، إنها عدم القدرة على التمييز بين الأصيل والفالصو وبين الحقيقة والوهم وبين الجمال والقبح الذي أوصلتنا إليها وزارات الثقافة والإعلام في عهد مبارك.

الثورة جاءت لتهدم هذا الخيال القبيح، وبالفعل استطاعت في بعض من مراحلها الأولى، ولكن مثل حالة الأقصر استطاع ذوو الذوق القبيح أن يزينوا الطريق المؤدي إلى بوابات الثورة الطاهرة العفوية بكل هذا الفالصو من سيراميك رجال الأعمال، أصر الكثيرون من علية القوم، ممن يحكمون أو ممن يرغبون في الحكم، على أن يلبسوا الثورة ذلك الثوب المنسوج من الفالصو القبيح ويخلعوا عنها ذلك الثوب المطرز يدويا والمصنوع من حرير إخميم الطبيعي والمرسومة زهوره بنقش دم أبناء مصر من الشهداء، استطاع أصحاب الخيال القبيح أن يعيدوا مصر إلى عالم مبارك وخياله القبيح المتمثل في نافورة من حديد عز وإلى جوانبها صور لمبارك ولمبة حمراء أو خضراء كتلك التي تزين بيوت الدعارة في أمستردام.

مطلوب منا جميعا أن نزيل رخام وركام محافظ الأقصر السابق سمير فرج الفالصو من أمام معبد الكرنك وأمام الثورة، ومطلوب منا أيضا أن نلبس الثورة ثوبها الأصلي. إن خيال القبح وبهرجة التلفزيونات التي تحيط بالثورة الآن ما هي إلا ثوب رقاصة بلدي يأخذ هذا البلد الأمين بعيدا عن ذلك الجمال السرمدي ويدخله في عالم القبح. نعم هناك بهرجة ولمبات حمر ولكنها بهرجة الزيف وما يتبعها من خيال قبيح وسلوك قبيح. فهلا أخذنا نفسا عميقا ونظرنا بهدوء لكي ندرك الفارق بين سيراميك سمير فرج الذي يزين البوابة وبين معبد الكرنك ذاته وأحجاره القديمة قدم الوطن؟