التصويت في الوقت الضائع

TT

في نيويورك، تزدحم الطرقات بسيارات البوليس استعدادا لاستقبال الوفود الرسمية لرؤساء الدول المشاركين في اجتماعات الدورة السادسة والستين للجمعية العامة للأمم المتحدة. وإذا ما كنت قادرا على الاستمتاع بقدح من القهوة السوداء والتهام قطعة من كعك «بيغل» - النيويوركي الشهير - في شارع ماديسون أفينيو فسيلفت انتباهك الجدل الدائر في الصحف اليومية ونشرات التلفزة الإخبارية عن المواجهة المرتقبة بين الفلسطينيين والإسرائيليين في اجتماعات هذا العام؛ حيث تقترب منظمة التحرير الفلسطينية من استحقاق تاريخي، يتمثل بالتصويت على الاعتراف بالدولة الفلسطينية المستقلة، وهو مشروع طرحه الرئيس محمود عباس خلال العام الماضي بعد أن فشلت محاولات إدارة الرئيس أوباما في تنشيط عملية السلام، ولعل السؤال المهم هو: لماذا تأخر الفلسطينيون أكثر من 6 عقود – منذ 1947 - لكي يطالبوا بالاستقلال؟ ولماذا الآن؟ لقد تضمنت معاهدة مونتيفيديو (1933) حول «حقوق وواجبات الدول» 4 شروط للاعتراف بالدولة المستقلة: مواطنون مقيمون، حدود ثابتة، حكومة مستقلة، وكيان لديه القدرة على الدخول في المعاهدات والمعاملات مع الدول الأخرى.

مشروع الدولة الفلسطينية كان يملك، طوال الوقت، المقومين الأولين: وهما شعب ذو قومية واحدة، وأرض لها حدود ثابتة وواضحة، لكن الفلسطينيين كانوا على الدوام يفتقرون إلى الشرطين الآخرين؛ حيث حجبت الخلافات الداخلية الفلسطينيين عن أن يكون لديهم كيان سياسي موحد، حتى في زمن منظمة التحرير كان القرار السياسي مختطفا من قبل جماعات وزعامات كثيرة، ناهيك عن عدم توافر حكومة وحدوية قوية حتى في المرحلة التي أعقبت أوسلو، وفي الشق الآخر ظلت العلاقات الفلسطينية مرتهنة، وأسيرة من قبل أنظمة ودول قدمت مصالحها على الخيار الفلسطيني.

أمام الاستحقاق الأممي المرتقب، لا بد من الإقرار بأن الفلسطينيين قد سلكوا - أو بعبارة أصح استنفدوا - كل الطرق الأخرى، فقد كان بإمكانهم القبول بالتقسيم في 1947 وإعلان دولتهم، لكنهم قرروا الانصياع للعقل الجمعي العربي الذي لم يكن يرضى بمشروع التقسيم، ولو أنهم استمعوا إلى رأي الرئيس بورقيبة لكان بإمكانهم الاحتفاظ بأغلب أراضيهم التاريخية، والمفاوضة على ما تبقى منها، لكن الخيار الفلسطيني - أو ربما قُل اللاخيار - قد شتت القضية وأضعفها عبر الزمن، بحيث ادعى الكل الوصل بها، وأصبحت تميمة الاستقلال بالنسبة لكثير من الأنظمة. ويمكن القول إنه حتى أوسلو 1993، لم تكن هناك جدية حقيقية لدى كثير من المسؤولين العرب بالاعتراف بقدرة الفلسطينيين على حل قضيتهم بأنفسهم.

أمام المناورات القائمة بين حكومة عباس ونتنياهو يمكن القول إن الأزمة ما زالت مستمرة منذ عقود دون حلول عملية، فهناك خطاب إسلامي خلاصي يعتبر الحل النهائي مشروعا جهاديا، بينما اليمين الديني في أميركا وإسرائيل يراهن على دعم المتشددين لحل استثنائي يحقق الشروط التوسعية دون استثناء.

هنا يمكن القول: إن مشكلة القضية الفلسطينية كانت بالأساس تعريبها، ثم أسلمتها، وبعد ذلك عولمتها، بحيث أصبحت قضية من لا قضية له، وتميمة المعارضين والثوريين في كل مكان، لكن هؤلاء كلهم من المتاجرين بالقضية من فلسطينيين وعرب، وأجانب لم يكونوا معنيين حقيقة بتجاوز القضية الفلسطينية عمليا، وإيجاد الحلول الواقعية - لا المثالية - لها، ولهذا استمرت قضية حائرة كل يدعي الوصل بها. هناك حقيقتان تتعلقان بتطور القضية الفلسطينية، الأولى: أن استخدام العنف - أو الجهاد المسلح - لم ينجح، بل قاد نحو إضعاف المشروع، والثانية: أن اللحظات التي قرر الفلسطينيون فيها أن يأخذوا بزمام أمورهم دون تدخل العالم قد أثمرت شيئا عمليا بالنسبة لهم، خذ على سبيل المثال معاهدة أوسلو التي استطاع الفلسطينيون مناقشتها بمعزل عن التأثيرات العربية - لا سيما التأثير السلبي للعراق وسوريا - وقد قادت في نهاية المطاف لمرحلة مفصلية - بل وتاريخية - للفلسطينيين، وللأسف كان انهيارا، أو قل زوال الحلم الفلسطيني بالدولة، على أيدي جماعات فلسطينية كحماس والجبهة الديمقراطية، والجهاد الإسلامي، وهي الأحزاب ذاتها التي تنافست بعد عقد من الزمان على الانتخابات الديمقراطية المفروضة من واشنطن في 2006.

لقد كان الوهم السياسي الأميركي يعتقد أن عرفات هو المشكلة بسبب قيام الانتفاضة الفلسطينية الثانية ذات الطابع العنيف والمسلح، لكن الحقيقة أن عرفات على الرغم من فشله - عبر عسكرة الانتفاضة أو السماح بذلك عبر مساعديه - لم يكن وحده المشكلة، بل هو عجز جيلين أو ثلاثة من الفلسطينيين عن بناء دولة خلال العقود الستة الأخيرة، في حين نجح الإسرائيليون - عمليا - في بناء واحدة خلال عام واحد منذ قرار التقسيم، أو عقد، إذا أخذت الانسحاب البريطاني كنقطة حساب لهذا التخلف الرهيب.

هناك سؤال مهم يطرح في الأوساط السياسية، هنا في نيويورك حيث أكتب هذا المقال: ما الذي سيصنعه الفلسطينيون عبر هذه المناورة الكبيرة التي يعتزمون القيام بها في الأمم المتحدة؟ أو بمعنى آخر: ما الذي ستستفيده القضية الفلسطينية من الاعتراف الدولي بها إذا كانت الدولة الكبرى المجاورة لها غير معترفة بها؟ أمام الفلسطينيين خياران: أما المغامرة بتحدي الفيتو الأميركي وتقديم الطلب بعضوية كاملة لفلسطين كدولة كاملة العضوية، أو القبول بالحل الوسطي الذي يقضي بتحويل «فلسطين» من مجرد كيان سياسي إلى دولة مراقبة (ولكن غير كاملة العضوية) كنموذج دولة الفاتيكان.

لا شك أن 8 عقود من التضحيات لم تأتِ بخيارات نموذجية للفلسطينيين؛ فالقضية تم استغلالها من أنظمة عربية كثيرة، لكن يبقى المستغل الأول عبر التاريخ المعاصر هم القادة الفلسطينيون أنفسهم؛ حيث لم تتهيأ زعامة صادقة على قراءة المواقف السياسية وتقديم الخيارات المتاحة للجمهور الفلسطيني دون تغطية أو تورية؛ حيث الصدق هو المعيار الوحيد لتشييد الكيان الجديد. عمليا، كان القرار الفلسطيني معطلا من بداية الانتفاضة الثانية، ثم تحولت انتخابات 2006 إلى مشروع تقسيم داخلي ما بين فتح وحماس، ومع تعاقب حكومات إسرائيلية - يمينية، واستغلال حقبة الحرب على الإرهاب من قبل المتشددين بإسرائيل، فقد أعطى الجميع أنفسهم وقتا استثنائيا، لكن الحقيقة الواضحة هي أن الطرفين قد أضاعا فرص الحل السلمي. لقد طالبت الإدارات الأميركية المتعاقبة حكومة سلام فياض أن تقوم ببناء المؤسسات كشرط لقيام الدولة الفلسطينية، لكن النتيجة التي خرجنا بها هي أن الفلسطينيين - لا سيما بالضفة الغربية - قد قاموا بكل ما طُلب منهم لبناء مؤسسات الدولة. لكن بعد أكثر من 20 عاما على أوسلو ليس هناك من شيء عملي يمكن تقديمه لهم.

لقد سألت دبلوماسيا أميركيا، اطلع على مرحلة أوسلو وما بعدها، عن رأيه في الخطوة الفلسطينية، فكان جوابه: «لقد استنفدت حكومة فياض كل الإصلاحات المطلوبة، ولم يعد أمام الفلسطينيين أي خيار بعد أن احتلت حماس شطرهم الثاني وارتهنته لإيران وسوريا، بينما فشلت الوعود الأميركية بالضغط على إسرائيل، وحيث استمرأ اليمين الإسرائيلي سياسة التوسع الاستيطاني دون الخوف من العواقب؛ حيث لا يمكن تجاهل الديموغرافيا الفلسطينية إلى الأبد». في الوقت ذاته، يبدو المشروع الفلسطيني للاستقلال غير واقعي في الوقت الذي لا تزال فلسطين فيه مقسمة بين الضفة وقطاع غزة: طرف تحكمه فتح (العلمانية)، وآخر تحكمه حماس (الإسلامية)، وحيث القرار الفلسطيني في الداخل والخارج مشتت إلى آراء وطروحات متناقضة.

يقول سياسي آخر متابع للقضية الفلسطينية: ما الذي سيجنيه الفلسطينيون من هذا الاعتراف؟ هل يعرفون - حقا - معنى أن تكون لهم دولة؟ الصين - مثلا - قد تعتذر عن عدم التصويت لهم لأنهم إذا أرادوا أن يكونوا دولة حقيقية، فعليهم أن يضطلعوا بمسؤوليات الدولة، وأن يجدوا أجوبة للخلافات السياسية حول العالم، فكيف سيكون رأيهم بخصوص تايوان مثلا، أو تقديرهم لمشكلات سياسية أخرى في المنطقة؟ ربما كانت هذه فرصة الفلسطينيين الحقيقية في الاعتراف بدولتهم، لكن ما تعلمناه حقا خلال العقود الماضية أن الفرص تخلق ولا تأتي جزافا، أي أن على الراغبين في صناعة التاريخ أن يعدوا العدة الجادة لتحقيقه لا أن ينتظروا المعجزات لأنها أبدا لا تأتي.

يقول آبا إيبان (1970) - الدبلوماسي الإسرائيلي الشهير - الذي ترجم رواية «يوميات نائب في الأرياف» للأديب المصري توفيق الحكيم: «التاريخ يخبرنا أن الرجال والدول يتصرفان بحكمة بعد أن يكونا قد استنفدا جميع البدائل الأخرى». ترى، هل يبقى للفلسطينيين من خيارات - أو حكمة - بعد التصويت؟! المستقبل وحده يحمل الإجابة.