مفارقات دولية

TT

لم يكد ديفيد بن غوريون، أول رئيس وزراء إسرائيلي، يعلن من على منبر الكنيست قيام «دولة إسرائيل» في 15 مايو (أيار) عام 1948، حتى سارعت الدولتان العظميان: أميركا والاتحاد السوفياتي، إلى التسابق على الاعتراف بها، بفارق دقائق قليلة عن الإعلان. لن أتوقف عند ما سبق قيام هذه «الدولة» وما رافقه من سياسات كان يجب أن تحول دون تسابق كهذا، ترتبت عليها جرائم ضد الإنسانية أدت إلى اقتلاع شعب فلسطين من وطنه التاريخي، وإحلال شعب آخر، غريب وأجنبي، مكانه، وإلى تغيير هوية البلاد ودفعها نحو وضع جديد فرض عليها بالقوة العارية. أما الذريعة التي استعملت لتبرير التهافت الدولي على الاعتراف بهذا الباطل، فهي وجود قرار صادر عن مجلس الأمن بتقسيم فلسطين وإقامة دولتين متجاورتين على أرضها: واحدة إسرائيلية تحتل أكثر قليلا من نصف مساحتها، والأخرى عربية تقوم فوق المساحة المتبقية. ومع أن الدولة الإسرائيلية احتلت بالقوة أكثر من نصف مساحة الدولة العربية، في سياسة خالفت بكل وضوح وفي وضح النهار قرار مجلس الأمن وجعلت تطبيقه مستحيلا، فإن أحدا لم يتوقف عند هذه الواقعة الخطيرة، وتم الاعتراف بالدولة الإسرائيلية الملفقة، على النحو الذي ذكرته.

وعلى الرغم من أن إحجام القيادة الفلسطينية عن إعلان قيام الدولة الثانية لم يسقط حق الشعب الفلسطيني فيها، ولم يؤد إلى اعتبارها غير موجودة، لأن تطبيق قرارات مجلس الأمن لا يرتبط بمواقف الأطراف المعنية، بل بأولوية الشرعية الدولية وإرادتها على أية شرعية محلية وخياراتها، كما فهمنا عندما رفض العراق قرارا دوليا، فأبلغه الأمين العام للأم المتحدة أنه ملزم ولا خيار له في قبوله أو رفضه، فإن دولة فلسطين اعتبرت في حكم المعدومة، بل وسمح لإسرائيل بالتوسع فيها، بعد احتلال كامل أرضها عام 1967، مما خفض مساحتها من 22 في المائة من إجمالي مساحة وطنها التاريخي عام 1948 إلى نيف ونصف هذه المساحة، بما أن الاستيطان انتشر في كل مكان منها، ولأن أحدا في العالم لم يمنعها من انتهاج سياسات رسمية رأت في أرض الدولة الفلسطينية ملكا مشاعا لا صاحب له، هو محل نزاع بينها وبينه، سيتقرر مصيره ليس من خلال قرارات دولية بل عبر تدابير يتخذها هو، تجعل مصير ما بقي من أرض الدولة الفلسطينية مسألة مفتوحة ستعين صورتها النهائية في الصراع عليها، وتربطه بإمكانية تهويدها، فيكون أمرها قد حسم على هذه الشاكلة، ما دام العالم قد تجاهل في مواقفه حقيقة قاهرة هي أن الدولة الفلسطينية موجودة بقرار دولي، وأنها دولة وسيدة لا يحق لأحد انتهاك حقوقها والركائز التي تنهض عليها، ومصالح شعبها.

واليوم، وبعد أن اعترفت 122 دولة بدولة فلسطين، السيدة والحرة، وأعلن الفلسطينيون عزمهم على إعلان قيام الدولة الوطنية الخاصة بهم، التي يفترض أنها قائمة فعليا منذ قرابة ثلاثة أرباع القرن، تحجم دول غربية، على رأسها أميركا، عن قبول خطوتها، وتهدد بفرض عقوبات عليها في حال تم تقديم طلب إلى مجلس الأمن حول الاعتراف بوجودها، وتنصح الشعب الفلسطيني بالعودة إلى المفاوضات مع الإسرائيليين، بحجة أن طريق الدولة لا يمر في نيويورك بل في القدس، فكأن الفلسطينيين لم يفاوضوا حتى اليأس منذ مدريد عام 1991 وحتى اليوم، أي خلال عشرين عاما، ولم يعلنوا اعترافهم بقيام إسرائيل على أرضهم والإقلاع عن الكفاح المسلح سبيلا إلى استعادتها، ولم يبح صوتهم من استنكار وإدانة الاستيطان وسياساته، والتوسع ومراميه، ولم يلفتوا أنظار العالم إلى خطورتهما، وما سيترتب عليهما من نتائج بالنسبة إلى مصالحهم الوطنية واستقرار المنطقة والعالم.

هذه مفارقة أولى تبين الحد الذي بلغه تهتك السياسات الدولية وخروجها على الحق والشرعية، وكم يغري الضعف الأقوياء بتجاهل مصالح الضعفاء، مهما كانت محقة وعادلة. قال الكبار عام 1948: نعم لإسرائيل. واليوم: يقول بعض هؤلاء: لا للدولة الفلسطينية، التي يزعمون منذ رئاسة جورج بوش الابن أنهم وافقوا على قيامها وسيعملون له، فكأنهم لم يكونوا يعنون حقا ما قالوه، وأرادوا تمكين إسرائيل من كسب الوقت الضروري لجعل قيام الدولة الفلسطينية المادي مستحيلا اليوم، بعد أن حال الصهاينة دون قيامها عام 1948.

أما المفارقة الثانية فهي لا تقل أهمية عن الأولى: إنها نظرة بعض الغرب إلى الانتفاضة الديمقراطية العربية ونتائجها، وعجزه عن إدراك حجم التشابك بينها وبين سيدة الانتفاضات: انتفاضة فلسطين الأولى والثانية، التي قدمت درسا ميدانيا تعلم خلاله العربي العادي كيف يستخدم قدراته الذاتية من أجل تحرره، وفهم أن وضعه البائس ليس قدرا يفرض عليه الاستكانة، وأن بوسع قوة الشعب الأعزل والمظلوم الناعمة رفض الظلم وإنزال الهزيمة بقوة الطغاة القاسية، مهما بلغت من تجبر. واليوم، والعالم ينظر بدهشة وإكبار إلى انتفاضة العرب ضد الظلم وفي سبيل الحرية، يبدو الغرب عموما وكأنه لا يفهم ما يحدث ويتجاهل الأبعاد الفلسطينية للحدث العربي الهائل، الذي سيمدها، وإن بعد حين، بقدر من التأييد والقوة سيمكنها من الانخراط في طور نوعي من الصراع ضد الاحتلال الإسرائيلي، لم يكن ما سبقه من أطوار غير تمهيد له سواء من حيث عمقه أو كثافته أو نتائجه.

كنا نظن أن الغرب سيسارع إلى الاعتراف بالدولة الفلسطينية بمجرد أن تعلن قيادتها عنها، كي لا يجد نفسه مضطرا لخوض صراع ضار إلى جانب إسرائيل ضد عرب أيقظتهم الحرية من سباتهم الشتوي الطويل، وستتيح لهم توحيد طاقاتهم الهائلة ضد احتلال إسرائيلي يرفض السلام ويتعامل مع العرب بينما يده على زناد مدفعه وصاروخه وبندقيته، فلا خيار لهم غير الرد عليه بالمثل في زمن قد لا يكون بعيدا، إلا إذا كانت قوى الغرب المقررة تخطط لاحتواء الحقبة العربية البازغة على الطريقة المجربة: دفع العرب إلى تغليب خلافاتهم الثانوية على تناقضهم الرئيسي مع عدوهم، وإنهاكهم من خلال تفعيل وتعميق خلافاتهم وتناقضاتهم وانقساماتهم، ووضع بعضهم في مواجهة بعضهم الآخر.

والغريب أن الغرب، الذي يقول دوما: إنه «عقلاني وواقعي ويرى الأمور على حقيقتها»، لم يتعلم من تاريخ صراعي يمتد لقرن ونيف أن شعب فلسطين لن يتخلى عن حقوقه، وأن إسرائيل لم ولن تتمكن من هزيمته، وأن السلام والإقرار بحقوق العرب في فلسطين وغيرها هو في النهاية ما سيتكفل بضمان استقرار المنطقة والعالم وتأمين مصالح الغرب، وأن السلاح والتوسع لن ينقذا إسرائيل من نفسها، مهما ساندها الذين يجارونها في حماقاتها القاتلة!