3 مشاهد تضع السودان في دائرة «الزنقة»

TT

3 مشاهد مختلفة، أحدها في أبوظبي، والآخر في الخرطوم، والثالث في لندن، ربما تلخص الحال الذي آلت إليه الأوضاع في السودان، وقد توحي بما تتجه إليه الأمور في مقبل الأيام.

المشهد الأول كان لوزير المالية السوداني، علي محمود، الذي انتهز فرصة الاجتماع الاستثنائي لمجلس وزراء المالية العرب في أبوظبي قبل أسبوعين ليعلن أن السودان سيحتاج إلى مساعدات أجنبية لا تقل عن مليار دولار، وربما تصل إلى مليار ونصف المليار سنويا لمواجهة مشاكله الاقتصادية بعد انفصال الجنوب. وأقر الوزير بأن السودان مقبل على أوضاع صعبة، مشيرا إلى الوصفة الوحيدة التي ظلت الحكومة تطرحها على مدى الأشهر الماضية، وهي خفض الإنفاق لمواجهة العجز في الميزانية، علما بأن الحكومة صرفت للمواطنين، المغلوب على أمرهم، عدة جرعات من هذه الوصفة على مدى الأشهر الماضية.

المشهد الثاني تعبر عنه حملة انطلقت هذه الأيام بين السودانيين لمقاطعة اللحوم بسبب ارتفاع أسعارها، ضمن موجة الغلاء التي أصبحت الشغل الشاغل للناس ومصدر شكواهم؛ فوفقا لتقارير رسمية فإن أسعار اللحوم ارتفعت أكثر من 40%، بينما ارتفع سعر زيوت الطهي نحو 48% مقارنة مع العام الماضي. من كان يصدق أن السودان، الذي يصدر اللحوم، ويتبرع رئيسه بالمواشي للدول الأخرى، يعجز مواطنوه عن توفير ثمن اللحوم لوجبة واحدة في اليوم، فيضطروا إلى إعلان حملة لمقاطعتها؟ المصيبة أن الذين فكروا في اللجوء إلى بدائل نباتية، مثل العدس، وجدوا أنفسهم كالمستجير من الرمضاء بالنار؛ لأن موجة الغلاء طالت كل شيء، والتوقعات تشير إلى أن الآتي أعظم، وأن الأزمة الاقتصادية ستتفاقم، بسبب المشاكل الداخلية وتراجع مداخيل الدولة بعد فقدانها نسبة 75% من الإنتاج النفطي إثر انفصال الجنوب.

المشهد الثالث كان في لندن هذا الصيف، عندما التقى نافع علي نافع، مساعد رئيس الجمهورية وأحد صقور النظام والحزب الحاكم، عددا من أبناء الجالية السودانية بمقر السفارة في العاصمة البريطانية، في جلسة للحديث عن أوضاع بلادهم سرعان ما احتدم النقاش فيها، وحدثت واقعة أصبحت حديث المجالس لأسابيع بعدها، ونظمت فيها أغنية ساخرة وضعت على موقع «يوتيوب» الإنترنتي. النقاش احتدم عندما أثير موضوع الاعتقالات وحقوق الإنسان في السودان، ووُجه الحديث إلى نافع باعتبار أن اسمه اقترن بأسوأ الممارسات التي قام بها جهاز أمن النظام، خصوصا ما عُرف باسم «بيوت الأشباح»، وهي مقار سرية استخدمها جهاز الأمن لإخفاء المعتقلين السياسيين وتعذيبهم بأبشع الطرق المنافية لكل الخلق السوداني ولكل القوانين السماوية والوضعية. لحظتها حاول نافع استفزاز قسم من الحضور بالحديث عن انقلاب البشير والجبهة الإسلامية بالقول إن ثورة الإنقاذ قام بها شباب على خلق ودين ولم تكن كسابقاتها دموية، مما جعل البعض يذكره بالضباط الـ28 الذين أعدمهم النظام في شهر رمضان، وبالآخرين الذين قُتلوا على أيدي قوات النظام وأجهزته الأمنية، وببيوت الأشباح والاعتقالات السياسية. كان رد نافع هو إشهار التحدي قائلا: «الداير يقلعها برجاله وبانقلاب، الباب مفتوح، خليه يحاول»، أي من يريد أخذ السلطة بالقوة، فليجرب. لحظتها قام أحد الحضور بقذف كرسي على الدكتور نافع وساد هرج ومرج في القاعة، وأصبحت تلك اللحظة هي كل ما يتذكره الناس من هذا اللقاء العاصف.

الغريب أن نافع عاد إلى استخدام هذه اللغة ذاتها في لقاء جماهيري بالسودان مؤخرا عندما قال: «إن قلع (أخذ) الحكومة بالذراع (أي بالقوة)، يحتاج ذراعا أقوى»، في مؤشر على أن النظام يشعر بأنه في أزمة؛ لذلك يحتاج إلى تكرار لغة التهديد والوعيد، والتلويح بأن النظام وميليشياته أقوى من الآخرين، وأنهم لن يستطيعوا زحزحته. الدكتور نافع ربما يحتاج إلى إعادة قراءة التاريخ السوداني الذي شهد انقلابات مثلما شهد ثورات شعبية، كما يحتاج أن يتذكر الحكمة الأبدية القائلة بأن الجبروت مهما طال فهو إلى زوال، وأن الحكومات مهما عمرت لن تدوم، وأن الشعوب هي الباقية.

المشاهد الثلاثة المذكورة تلخص الأوضاع المحتقنة، التي ربما تتجه إلى انفجار هادر على الطريقة السودانية؛ فالذين يعرفون السودانيين يشهدون لهم بقدرة عجيبة على الصبر والاحتمال، ويتعجبون في الوقت ذاته كيف أن السوداني يمكن أن ينفجر في لحظة واحدة إذا غضب أو إذا استُفزت كرامته. وهناك مؤشرات كثيرة في الوقت الراهن على أن السودانيين بدأوا يفقدون صبرهم، ليس إزاء الحكومة وحسب، بل حتى إزاء قيادات المعارضة التي يرون أنها إما مترددة ومشتتة، وإما عاجزة عن قيادة التغيير؛ لذا لم يكن غريبا أن تنطلق بعض الأصوات مؤخرا منادية قادة المعارضة بالتقدم لقيادة الشارع المتطلع للتغيير، أو التنحي وإفساح المجال لقيادات شابة تكون أكثر قربا من نبض الشارع، وأكثر جرأة في التعبير عنه.. فالواقع أن كل جولات الحوار بين الحكومة والمعارضة لم تؤدِّ إلى تغيير ينعكس على أوضاع الناس، فالنظام يعرض على المعارضة مناصب فقط تجعلها جزءا من ديكور السلطة، من دون القبول بأي تغييرات جوهرية وحقيقية تنقل البلد من حالة دولة الحزب إلى دولة الوطن، بل إن دوائر السلطة تتحدث عن سيناريوهات انتقال السلطة من البشير بعد انتهاء فترته الراهنة (وقتها يكون قد قضى في الحكم 26 عاما إذا قُدر له أن يكمل هذه الفترة الرئاسية)، أو التوصل إلى صيغة لنقل السلطة قبل انتهاء الفترة الانتقالية لنائبه الأول والمخطط الحقيقي لانقلاب الإنقاذ علي عثمان. وكانت تسريبات «ويكيليكس» للوثائق الأميركية قد نقلت عن برقيات لدبلوماسيين أميركيين بعد لقاءات مع مسؤولين سودانيين أن علي عثمان وصلاح قوش (مستشار الرئيس ورئيس جهاز الأمن السابق) لمحا إلى احتمال «التضحية» بالرئيس لإنقاذ النظام وضمان استمرار حزب المؤتمر الوطني الحاكم في السلطة.

هذه الحسابات انقلبت رأسا على عقب في ظل تداعيات انفصال الجنوب، واستمرار التوتر بين الشمال والجنوب، وتفجر حربين جديدتين في الشمال بولايتي جنوب كردفان والنيل الأزرق، إضافة إلى استمرار حرب دارفور. يضاف إلى ذلك الأزمة الاقتصادية والمعيشية التي بدأت تضيق على الناس، وتضغط على النظام الذي عاد إلى طلب المساعدات من الخارج، بعد أن بدد الكثير من عائدات النفط بسبب الفساد المستشري، وفرط في وحدة البلد، وعاد الآن إلى تعزيز علاقاته وتحالفه القديم مع طهران، في انتظار صعود قوى إسلامية في الدول التي شهدت أو تشهد انتفاضات وثورات.

السودان بدأ يدخل، بلا شك، دائرة «الزنقة» التي قد تضعه في قلب الأحداث وليس بعيدا عن مرمى الانتفاضات والثورات العربية.

[email protected]