أردوغان ليس شيخ الطريقة

TT

هم كانوا منهمكين في تعليق لافتات «من القاهرة إلى إسطنبول.. نحن معاك على طول» و«يا أردوغان يا حبيب.. بكرا حتدخل تل أبيب»، ويضعون اللمسات الأخيرة على قرار تتويجه «شيخ الطريقة» أو «الخليفة الجديد» و«القائد المنقذ» و«ابن خلدون العصر».. وهو كان ينقح آخر كلمات رسائله الموجعة إلى «إخوان مصر» وقياداتها الذين حشدوا الآلاف لاستقباله: «استفيدوا من التجربة العلمانية التركية وحاولوا أن تطبقوها في بلادكم أيضا».

هم كانوا يروجون لأهمية العودة التاريخية لتركيا إلى منطقة أهملتها وابتعدت عنها لعقود، وهو جاء يقول لهم أفسحوا الطريق أمام العلمانية لتكون حكما بينكم في ولادة الدولة المصرية الحديثة فلا تناقض بين العلمانية والإسلام.

أردوغان من القاهرة وعلى مرأى ومسمع شيخ الأزهر يدافع عن العلمانية ويدعو للاستفادة من التجربة التركية في هذا المجال ليتحول المشهد، كما صوره أحد الكتاب الأتراك، إلى محاولة «بيع الحلازين في أحياء إسلامية»، وسط خيبة الأمل والصدمة في صفوف المستقبلين الذين لم يتخلوا عن تماسك أنفسهم حتى في رد الفعل: «لكل دولة تجاربها وخصائصها».

أردوغان السياسي المخضرم لم يكن ليجازف على هذا النحو في استفزاز «إخوان مصر» وإغضابهم وهو يعرف أن استطلاعات الرأي كلها تلتقي عند حظوظهم الكبيرة في تسلم إدارة دفة الحكم في مصر للحقبة الجديدة. ربما هو لم يخذل أحدا، أو على الأقل لنقل إنه لم يكن يرغب في ذلك، فقط سقف الرهان عليه في صفوف «الإخوان» كان عاليا جدا إلى درجة تحليق المريدين والمتحمسين.

كل هم أردوغان البراغماتي كان تكرار ما فعله دائما؛ استغلال فرصة وجوده في مصر بعد 15 عاما من الغياب للإيقاع بأكثر من عصفور بضربة حجر واحدة:

رسالة أردوغان كانت موجهة أولا إلى قيادات الأحزاب والحركات الإسلامية التي تستعد لتسلم زمام الأمور في عواصم الربيع العربي. هو يتنصل من أية محاولة للزج باسمه في خطط التنسيق مع قيادات إسلامية صاعدة في محاولة لقلب لعبة التوازنات الإقليمية متسلحة بربيع الثورات حتى ولو كان ثمن ذلك هو القطيعة مع هذه القيادات. هو يريد ثانيا توجيه رسائل قوية وحاسمة حول ضرورة تحرير الدين من قبضة السياسة والسياسيين، لكنه يريد أيضا تحرير السياسة من محاولات هيمنة الإسلاميين المتشددين عليها. هو قالها أكثر من مرة: نحن أوفياء للعلمانية كما حددها الدستور التركي ولا أجندة سرية لـ«العدالة والتنمية». ومع ذلك، فالبعض في عالمنا العربي يصر على تجاهل تعريف الدولة التركية كما ورد في دستور عام 1982 ويتناسى دائما أن لا منصب اسمه مفتي الجمهورية التركية، بل هناك مؤسسة الشؤون الدينية التي للكثير من الإسلاميين والعلمانيين الأتراك على السواء تحفظات وانتقادات كثيرة على تركيبتها وطريقة عملها.

ربما ارتدادات كلام أردوغان الأسرع والأقوى كانت تصدح قبل أيام في قاعة اجتماعات المجلس الأوروبي في يالطا عندما قرأ السكرتير العام للمجلس ياغلاند ورقة تنقل النص الحرفي لكلام رئيس الوزراء التركي، داعيا لمراجعة المواقف والقرارات حول العلاقات التركية - الأوروبية، ومطالبا بفتح الأبواب على وسعها أمام تركيا العلمانية التي تثبت دائما أنه من حقها أن تكون شريكا كاملا في المجموعة الأوروبية.

دون أن ننسى طبعا أنه في الوقت الذي كان فيه أردوغان يضع اللمسات الأخيرة على ما سيقوله للمصريين حول العلاقة بين العلمانية والإسلام، كان يصدر أوامره بالإعلان عن قبول نشر أجهزة الإنذار المبكر باسم حلف شمال الأطلسي في مناطق شرق تركيا القريبة من إيران وروسيا وربما سوريا إذا ما استمر هذا التوتر بين أنقرة ودمشق.

مهما دافع أردوغان عن النظام العلماني وقال إنه لا يتعارض مع الإسلام في تركيا، فإن القائم على الأرض هو حقيقة عدم وجود شخصيات تمثل أقليات تركيا في مواقع الإدارة والقيادة المدنية والعسكرية وأن آلاف المحجبات ما زلن ينتظرن السماح لهن بالعمل في المؤسسات الرسمية وغطاء الرأس فوق رؤوسهن.

أردوغان في حملة القاهرة لم ينجح فقط في إغضاب «الإخوان» والكثير من الإسلاميين العرب والابتعاد عنهم، بل نجح في إغضاب الكثير من العرب الذين كانوا يستعدون لتقبل أي شيء منه غير حديثه عن إيجابيات العلمانية التركية وحسناتها.

تركيا تعيش أزمة تراجع علاقاتها مع إسرائيل وسوريا والاتحاد الأوروبي وربما إيران وأميركا في الأيام المقبلة، وأردوغان يبحث عن البدائل والخيارات التي تحمي الصعود التركي والعودة بقوة إلى قلب المنطقة. لعل رسالة القاهرة خطوة باتجاه الرد على محاولات إسرائيلية متكررة للإيحاء أن تركيا هي التي تحرك وتدير قيادات الربيع العربي باسم مشروع نشر التطرف الديني؛ البضاعة التي من الممكن الترويج لها وتسويقها بسهولة في عواصم الغرب.