بين وقت وآخر

TT

كان في لبنان صحافي جاء من الهندسة يدعى جورج نقاش، أسس، في إحدى المراحل، أهم جريدة فرنسية «الأوريان» وأهم جريدة عربية «الجريدة». وكانت افتتاحياته في «الأوريان» تذهب مثلا، وتدخل تاريخ السياسة والصحافة معا. وظلت الناس عقودا تتندر بافتتاحية عنوانها: «أسكتوا السيد شمعون» ينتقد فيها إكثار الرئيس شمعون من الكلام في كل المواضيع وكل المناسبات وكل التجمعات وكل الجمعيات.

وخاض نقاش معارك صحافية وسياسية كثيرة، تميزت كلها بأسلوبه اللاذع وذكائه وثقافته. وفي تلك المرحلة (انتهت أوائل السبعينات) كان صحافي آخر يصدر إحدى الصحف ويكتب فيها. واشتهر عنه أنه لم يكن مستقيما مثل خط الاستواء أو خطوط الطول والعرض. وكانت جريدته تغلق يوما وتصدر نصف يوم.

ذات مرة قرر هذا الصحافي أن يحمل، لأسباب عنده، على زعيم طرابلس عبد الحميد كرامي. وعندما رفع من حدة الحملة كتب جورج نقاش في «الأوريان» افتتاحية يقول فيها ما معناه: لم يحصل لي شرف التعرف شخصيا إلى عبد الحميد كرامي، برغم أن معظم السياسيين والصحافيين يعرفونه. ولم يسبق لي أن كونت رأيا أو اتخذت موقفا من الزعيم الطرابلسي. لكن يبدو أن هذه الحال شارفت على نهايتها الآن. فكلما هوجم الشيخ عبد الحميد من أحد الصحافيين ازددت ثقة بأنه رجل يستحق الاحترام. وكلما جرى الحديث عن أخطاء عبد الحميد ازددت إعجابا به. وكلما أعرب صحافي عن غضبه من زعيم طرابلس ازددت قناعة بأن هذا الرجل لم يأخذ حقه في السياسة اللبنانية حتى الآن.

عندما أصغي إلى بعض «الإعلاميين» اللبنانيين يدافعون عن النظام السوري أقول في نفسي: متى سوف تدرك دمشق مدى الضرر الذي يلحقونه بها؟ متى سوف يفيق المسؤولون في سوريا إلى أن بعض الدفاعات التلفزيونية أقسى بكثير من المظاهرات الصباحية أو الليلية؟

عرف عن هذا الصحافي أنه هاجم أحد السياسيين الميسورين، ثم تحول بعد قليل إلى مدحه. وبعد أيام أرسل السياسي «أمين الصندوق» لديه إلى الصحفي ومعه شيكان غير متساويين في الأرقام. وعندما تفحصهما سأل مبعوث النوايا الحسنة عن السبب في إرسال شيكين بدل واحد، وأيضا عن سبب الاختلاف في الأرقام.

وأجاب المبعوث بكل جدية، وهو ينقل رسالة حرفية: «البك بيسلم عليك شديد السلام، ويشكرك جزيل الشكر. الشيك الصغير هو من أجل أن تكف عن مديحه، والكبير هو من أجل أن تهاجمه بين وقت وآخر!».