ليبيا الأمل

TT

يبدي البعض في شأن ليبيا تخوفين اثنين؛ أولهما ما لا تزال شرذمة القذافي وأفراد الكتائب المرتزقة يشكلونه من خطر في المناطق غير المحررة بالكلية.. يزيد في قوة الشك ما يقال عن وجود مخازن مجهولة العدد والمكان، تحوي أطنانا كثيرة من غاز الخردل، وربما ما شابهه من أسلحة سامة. وثاني التخوفين ما يروج عن وجود اختلافات داخل المجلس الانتقالي وبين قيادات في أوساط المقاتلين الثوار. والأمران، متى أخذا على ظاهرهما، يجعلان حديث المستقبل والأمل حديثا متعثرا. بيد أن الاحتكام إلى العقل والمنطق يحمل على تبديد مخاوف مماثلة، وذلك بإرجاع الأمرين المذكورين إلى الأبعاد الحقيقية لكل منهما. والعقل والمنطق يفرضان القول إن نظام «الجماهيرية» قد تهاوى بالكلية واندحر، كما كان متوقعا، باندحار صاحبه. ومن ثم تبين أن ما كان التخويف به من السلطان الأعمى للقبيلة وللقبلية إنما هو كذبة فاشلة وهذا أولا. وتبين لكل ذي نظر سليم أن الشعب الليبي، وهذا هو الأهم، قد انخرط منذ اليوم الأول في عمل تشييد الأركان وتطهير المؤسسات التي لا وجود لدولة في غيابها (الأمن، التعليم، إدارة شؤون المدينة...). ومن جهة ثالثة، يعمل الطوق العسكري المحكم، أرضا وجوا، في تبديد الشك في قدرة فلول الكتائب على الصمود في وجه الثوار، بل قلب كفة الموازين، ناهيك عن تتالي الاعترافات الدولية بالمجلس الانتقالي ومن ثم بالواقع الجديد في ليبيا. والعقل والمنطق يقولان أيضا إن الأصوات التي ترتفع بالاعتراض على الدكتور محمود جبريل وعلى البعض من رفاقه، وكذا التعثر في الإعلان عن التشكيلة الحكومية الجديدة، بل والتصريحات النارية التي يبعثها الشيخ الصلابي من منفاه، كل هذه أمور تعبر عن اختلاف لا عن خلاف، وشتان ما بين الأمرين. الاختلاف في الرؤية وفي البرامج والوسائل علامة صحة ومؤشر على وجود النواة الديمقراطية السليمة. والخلاف، إذ يمس الجوهر ويطال الاختيارات الكبرى فهو يتهدد الوحدة. وما نسمعه من التصريحات المختلفة على لسان الزعماء الليبيين وما يأتي عفوا في عبارات من يتم استمزاج رأيهم من المواطنين يعبر كله عن الإرادة المشتركة في بناء الدولة الحديثة في ليبيا، دولة القانون، دولة المواطن الليبي الحر، دولة احترام حقوق الإنسان، وبالتالي التعبير عن هذه الإرادة العامة التي تعتمل في صدر الإنسان العربي في هذه المنطقة من العالم. ومن شروط الحرية والديمقراطية الحقيقية وجود الاختلاف، فهو المؤشر الضروري إلى وجود الحياة السياسية السليمة. لا تعرف الديمقراطية عدوا أشد فتكا بها من رقم تسعين في المائة وصاعدا في التعبير عن الموافقة: هل نحن في حاجة إلى القول إن في حماية المعارضة وتمكينها من الشروط القانونية للتعبير عن ذاتها حماية للديمقراطية وإجلاء لها؟ وإذن فنحن نقول إن الاختلاف في الرأي، والحديث عن الإسلاميين خاصة باعتبارهم صوتا مغايرا، اختلاف محمود وعلامة صحية. الاختلاف، لا الخلاف، لا يجعل الأمل متعثرا، بل إنه، على العكس تماما ينفخ فيه الروح الضرورية ويكسبه الشرعية والقوة معا. ربما وجب أن نضيف أن الصوت «الإسلامي»، شأنه في ذلك شأن الصوت الليبرالي وكل التعبيرات الأخرى التي تتوق إلى الحرية، قد عرفت القمع والانتهاك والتقتيل طيلة العقود الأربعة الماضية في ليبيا العقيد. لا شيء أكثر طبيعية ولا منطقية من هذا الاختلاف، وما يبعث على الخوف حقا هو غياب الاختلاف، ذلك أنه لا يفسر إلا بوجود الاستبداد وحكم الطغيان. وإذن فليبيا الأمل، ليبيا الدولة الجديدة التي تولد من رحم القهر والخوف والطغيان والفساد، حقيقة ترتسم معالمها بالتدرج المنطقي والمطلوب وليس لأي كان أن يدعي تقديم نصح ودرس في هذا الشأن، فالشعب الليبي وحده، يملك الحق في القول والاختيار.

ما نملك أن نقول فيه، هو التطلع إلى ليبيا الأمل التي نحلم بها، فما أشد حاجتنا إليها بل وحنيننا إليها، ليبيا المغاربية والأفريقية والمتوسطية. ذلك أن «نظام الجماهيرية» قد أساء كل الإساءة إلى ليبيا في كامل أبعادها الحضارية والسياسية فكان العبث بها خدمة لأغراض غير نبيلة ولمزاج مريض متقلب. في كل من الأبعاد المغاربية والأفريقية والمتوسطية نود أن نقول شيئا يسيرا.

تقوم في سبيل قيام المغرب الكبير عراقيل أشدها إيلاما ما يبديه البعض من إصرار غريب على دعم كيان وهمي اسمه «الصحراء الغربية» وليس سرا ولا جديدا، أن نقول إن العقيد القذافي كان وراء إنشاء «جبهة البوليساريو» مثلما كان وراء دعمها دعم لا حدود له من الناحيتين العسكرية والمالية، في حين أن جهة أخرى تتكفل، في الواجهة، بالدعم الدبلوماسي والتغني بالحق الكاذب بتقرير المصير خدمة لحسابات معلومة تأخذ اليوم في الانكشاف بالتدريج، ولعلها في الأمد القريب ستغدو أكثر جلاء. لست أريد للقارئ الكريم إلا أن يستخلص المعنى من بيان رسمي للمجلس الانتقالي الليبي المؤقت تم فيه الكشف عن وجود عدة مئات من أسرى «البوليساريو» (نحو 500) ضمن المرتزقة المحتجزين لديها. ربما وجب الكلام عن «اعتراف بالجميل» وربما كان الأمر أكبر من ذلك. المغرب الكبير أمل لا استحالة فيه ألبتة، فهو تعبير عن إرادة ساكنة المنطقة، وهو يتوافر على كافة المبررات الطبيعية والمنطقية وليس يماري فيه، أو يقف في وجهه إلا من كانت لهم حسابات نرى أن الربيع العربي هو الآن بصدد الكشف عنها. والمعول على ليبيا الحرة، وبشائر الخير موجودة في الإسهام الإيجابي الكبير في دعم وإقامة هذا الصرح العظيم الذي تهفو إليه قلوب المغاربيين عامة، وقلوب العرب قاطبة.

تتصل ليبيا جنوبا بالنيجر وتشاد ومالي في جزء يسير أيضا، وبالتالي فهي تشترك في الرقعة الجغرافية الشاسعة التي تشكل الصحراء الكبرى، وهذه المنطقة اليوم مهد مشكلات إنسانية خطيرة (الفقر وشح الموارد وفساد الأنظمة السياسية..). وهذه المنطقة مصدر تهديد للسلم الدولي (انتشار التهريب، بكافة أشكاله بما فيه بطبيعة الأمر السلاح والمخدرات)، فضلا عن التنظيمات الإرهابية بالغة الخطورة. وطيلة أربعة عقود ونيف ارتبط اسم ليبيا، للأسف الشديد، بكل أصناف المغامرات السياسية وكذا تقديم الدعم المالي الذي لا يعرف حدودا ولا سبيل طبعا إلى المساءلة يصدده. يمكن القول إنه قد تمت الإساءة إلى الشعب الليبي الأبي أولا، بنهب ثرواته والإبقاء عليه في حال من الفقر الشديد، وهو البلد الكثير الغني قليل السكان (ستة ملايين نسمة. ما يقرب من مائة وعشرين مليار دولار من عائدات البترول). وتمت فيه الإساءة البالغة إلى ليبيا شعوبا ودولا، وهذا ثانيا. كما لحقت الإساءة بالمنظمة الأفريقية ثالثا لأسباب هي النتاج المنطقي لبعض ما أشرنا إليه. والأمل معقود على الدولة الليبية الحرة في تصحيح الصورة بالكلية وعلى النحو السليم، وإن ليبيا البلد العربي الأفريقي الذي يمتلك المؤهلات الكافية من أجل العمل على إعادة ترتيب البيت الأفريقي وقد خرجت هي ذاتها، ولله الحمد، من الليل البهيم الذي ظلت تتخبط فيه زمنا غير قليل.

ليس المعول على ليبيا الدولة المتوسطية بأقل شأنا من المنتظر منها أفريقيا ومغاربيا وعربيا بالنظر إلى موقعها، حيث تمتد أزيد من ألف كيلومتر على الشاطئ الجنوبي من البحر الأبيض المتوسط غير بعيد من مالطا ومن إيطاليا ومن أوروبا عامة، وهي من جهة أخرى صلة أوروبا الغربية بدول كثيرة من أفريقيا عبر كل من تشاد والنيجر ومن خلفهما دول جنوب الصحراء التي تشكل مصدر إزعاج بالنسبة للكثير من دول أوروبا الغربية.

ليبيا الأمل تمتلك جملة عظيمة من الأسباب ومستقبل الدولة الليبية الحديثة رهين باختياراتها ووعيها بالخطورة الاستراتيجية لموقعها ولبنيتها البشرية.