العرب والنظام الدولي والاختبار العسير

TT

قال أبو مازن، رئيس منظمة التحرير والسلطة الفلسطينية، كلاما مهما في عدة مناسبات في الأسابيع الماضية، بيد أن أهم ما قاله، من وجهة نظري، أن المرحلة المقبلة ستكون عسيرة جدا على السلطة الفلسطينية وعلى الشعب الفلسطيني. وهو يقصد بذلك، بالدرجة الأولى، أمرين اثنين: التهديدات الإسرائيلية والأميركية للسلطة بسبب المضي إلى الأمم المتحدة رغما عنهما، والأمر الآخر: التوجه الذي يكون على المنظمة والسلطة (والعرب) اتخاذه والسير فيه، إن لم تحصل دولة فلسطين على العضوية بالأمم المتحدة. ذلك أن النهج التفاوضي السابق ما عاد يمكن العودة إليه، بغض النظر عن مدى الاستعداد الإسرائيلي والأميركي لذلك، كما أن الخيارات الأخرى ذات الطابع الراديكالي كلها عنيف ومدمر، وهي مستحيلة السلوك وعسيرة التجنب!

لقد بدأ المسار الذي وصل إلى الطريق المسدود، في الحقيقة، بين العامين 2000 و2002، ويحسب خصوم السلطة والمنظمة أن ذلك يعود لاتفاقية أوسلو عام 1993. إنما الأهم من اتفاقية أوسلو، الجهة التي رعتها وعملت، بوصفها «وسيطا نزيها» بين الطرفين الإسرائيلي والفلسطيني، على إنفاذها، وهي الولايات المتحدة. لكن منذ أواخر عهد الرئيس كلينتون، وربما قبل ذلك، ما عادت الولايات المتحدة وسيطا، فضلا عن أن تتسم بالنزاهة في السير بعملية السلام إلى هدفها المنشود: زوال الاحتلال الإسرائيلي، وإقامة الدولة الفلسطينية المستقلة، أو الدولتين على أرض فلسطين التاريخية. وجاء أول صدع في سفينة الوفاق والاتفاق، بإقدام مستوطن على قتل رئيس الوزراء الإسرائيلي إسحاق رابين عام 1995، وبذلك فقد صار الاتفاق من الجانب الإسرائيلي من دون أب. وكأنما ما كان ذلك كافيا للتفشيل والخرق؛ فقد صار القاتل بطلا، واستولى المستوطنون بالتدريج على إدارة حكومة الكيان ومستعمراته!

وفي الوقت الذي كانت فيه الاتفاقية تفقد شعبيتها لدى الجمهور الإسرائيلي، شنت حركة حماس والتنظيمات الأخرى خارج منظمة التحرير، هجمات انتحارية مدمرة على الكيان وناسه، من مستوطنين وغير مستوطنين، وعلى مدى سنوات؛ وبذلك فقدت الاتفاقية بالتدريج شعبيتها لدى الفلسطينيين أيضا، وضعفت السلطة الفلسطينية التي ما شاركت رسميا في هذا «الجهاد» المسلح. وعندما مات ياسر عرفات عام 2004 في ظروف غامضة، كانت الاتفاقية قد صارت من دون أب من الجانب الفلسطيني أيضا، ومنذ سنوات! ثم انهمك الفلسطينيون في انقسام فظيع، سياسي ومسلح، أفضى في النهاية إلى استقلال حماس بغزة، في الوقت الذي كان فيه الرئيس بوش ومحافظوه الجدد، يقومون بما عليهم في نبذ السلطة وخصومها، بحجة عجزها تارة، أو التحاقها بالإرهاب تارة أخرى!

ومع ذلك؛ فإن السلطة الفلسطينية المطرودة عمليا كل يوم عن طاولة التفاوض، كانت تعود إليها، بإصرار من الإدارة الأميركية تارة، أو بإصرار من الرباعية مجتمعة تارة أخرى! وقد استقر لدى السلطة الفلسطينية والعرب المهتمين، الاعتقاد أن ذهاب بوش، صاحب الحرب الصليبية على الإرهاب، ومجيء أوباما سوف يغير الموضوع تماما، وما قصر أوباما في بعث هذه الآمال وتنميتها، من إعلانه عن حل الدولتين، وعن حدوث ذلك خلال عام، وتعيين جورج ميتشل، راعي الحل الآيرلندي، مبعوثا خاصا للرئيس مطلق التفويض، لقسمة جلد الدب، بل الدب نفسه قبل اصطياده، فضلا عن وجوده. فلا شارون، ولا نتنياهو من بعده، حسب حسابا لأوسلو أو للمفاوضات واعتباراتها. وبعد كل جولة فاشلة، وتنامي المستوطنات، كان الفلسطينيون يشكون أمرهم إلى أوباما، وأحيانا يذهبون إليه مع ميتشل نفسه، ويكون الجواب أن الرئيس لن يترك نتنياهو ينجو بجلده، وسوف يرون أن الأمور ما تزال تحت السيطرة. وقد أحس الفلسطينيون بأن الأمور - وبخلاف مزاعم الرئيس - خرجت عن السيطرة عندما استقال جورج ميتشل لأسباب خاصة، كما قيل، وعاد لإدارة التفاوض ستيفن روس طيب الذكر، الذي عرفه الفلسطينيون وعرفوا مسالكه منذ أيام كلينتون، بل منذ أيام بوش الأب ومؤتمر مدريد!

وعلى أي حال؛ فقد كان خروج ميتشل مفيدا، لأنهم تحت وطأة الأهوال القادمة طوروا المسألتين الضروريتين لاستمرار التفاوض، المباشر وغير المباشر، أو توقفه: وقف الاستيطان، ووضوح المرجعية.. فالاستيطان في الضفة وتهويد القدس يجعلان قيام الدولة مستحيلا، لأنه لا دولة من دون أرض، ولا دولة من دون القدس الشرقية والأقصى. أما المرجعية فالمعني بها إيضاح الهدف من التفاوض، وهو الالتزام العلني من جانب نتنياهو بالدولة في حدود عام 1967، وتحديد زمن للتفاوض، وليس إبقاء التفاوض من أجل التفاوض، أو لتغطية الاستيطان الإسرائيلي.

وهكذا، ومنذ ستة أشهر بدأ الفلسطينيون، أمام الرباعية وأمام الأميركيين، يتحدثون عن إمكان الذهاب إلى الأمم المتحدة، ما دامت الرباعية، وما دام الأميركيون عاجزين عن دفع نتنياهو لوقف الاستيطان، وتجديد الالتزام بأوسلو وحل الدولتين في أمد محدد. وما عارض الأميركيون هذا الحديث في البداية، بل حاولوا استخدامه للضغط على نتنياهو. وردَّ الصهيوني المتمرس بالأجواء الأميركية، بالذهاب لهزيمة أوباما في عقر داره، فقد استقبل الكونغرس رئيس وزراء إسرائيل باعتباره شخصية أميركية كبرى وتاريخية، وبطريقة لا تقل خنوعا عن طريقة مجلس الشعب السوري في استقبال الرئيس بشار الأسد بعد مذبحة درعا!

هكذا يتقدم الفلسطينيون اليوم بالطلب لإقامة الدولة، وهم شبه موقنين أن هذا الطلب سيقابله الأميركيون بالفيتو، كما سبق أن فعلوا مع الشكوى التي تقدم بها الفلسطينيون لوقف الاستيطان.

قال أبو مازن من نيويورك: نريد دولة لا مواجهة واشنطن، ولا اجتماع مع نتنياهو إلا إذا قبل بحدود عام 1967، لكن واشنطن تريد المواجهة، لأنها لا تستطيع تحمل زعل نتنياهو واليهود الأميركيين، على مشارف سنة الانتخابات الرئاسية. وقد حاول الأوروبيون، وسيحاولون، أن يلعبوا دور الوسيط، وهذه المرة بين العرب وواشنطن، وليس بين الفلسطينيين والإسرائيليين، إنما إذا أصر العرب، فلا شك أن الأوروبيين سينحازون لواشنطن، إلا إذا أثبت العرب هذه المرة أنهم بعد التغيير، لا يمكن التعامل معهم كما قبل التغيير، فما بعد ميدان التحرير ليس كما قبل ميدان التحرير. لقد فقدت إسرائيل صمت مصر وسلبيتها، كما تفقد بالتدريج صداقة تركيا وتعاونها. إنما الخصم الرئيسي لإسرائيل ليس الحرب، بل الانضباط، والإصرار على السلمية، وإحراج إسرائيل وأميركا المجتمع الدولي بذلك.

وهناك طرفان لا يريدان الانضباط ولا التوجه إلى المجتمع الدولي؛ الأول هو الطرف الإسرائيلي الذي يخشى الإحراج ويخشى العزلة، ويود لو يهرب منهما إلى النزاع والحرب، والأفضل له أن يكون البادئ بذلك فلسطينيا أو عربيا. والطرف الثاني أكثر من جهة، تحركت على هامش غزوات بوش وصحبه، وزرعت وكسبت أطرافا في المشرق العربي، وهي تتوتر الآن وتفقد ما كسبت، وتود لو تستطيع استعادة زمام الفتن والانقسامات ولو بالحرب. وكما يكون على العرب الصمود والثبات من خلال نهج وضع المجتمع الدولي أمام مسؤولياته إلى النهاية، يكون عليهم أيضا الثبات وعدم الخضوع للغوغائية، بحجة تجديد المقاومة أو إحراق السفارات، أو التحدث باسم فلسطين التاريخية. فما يفعله الإسرائيليون والأميركيون ظلم وخروج على الشرعية الدولية، أما ما يفعله دعاة الممانعة والمقاومة فهو ظلم للنفس، وتخريب لقضية التغيير في العالم العربي.. وإن غدا لناظره قريب.