في البحث عن السادات!

TT

«مصر ولادة».. جملة صحيحة بلا ريب، فمصر هي موطن علماء ومبدعين وساسة كبار في الماضي والحاضر، لن نتحدث عن الماضي السحيق، بل عن الماضي المصري في التاريخ الإسلامي.

مصر هي مهجر الشافعي، ومثواه الأخير، هي موطن فقهاء عظام أمثال الليث، الذي كان له مذهب متبع مثل مذهب مالك، وهي منبع مفسرين نوابغ أمثال السيوطي، ومؤرخين أذكياء كالجبرتي، وشعراء من سادة الإبداع والتصوير والحكمة أمثال البهاء زهير.. وفي العصور الحديثة حافظ وشوقي. هذه العصور التي أطلق فيها الأفغاني من مصر صيحة النهضة في الشرق، وبشر فيها الإمام محمد عبده بتجديد الدين، وهي التي أنجبت مفكرين حفروا في صخر النقد وحركوا العقل الراكد أمثال طه حسين، وهي من عطرت دنيا العرب بفنون سيد درويش وعبد الوهاب وأم كلثوم.

مصر هي من حكمها أحد أعظم حكام المشرق الإسلامي، وكاد يرث الدولة العثمانية، وهو الضابط الألباني محمد علي باشا، باني مصر الحديثة.

كثيرون هم من بنوا مجد مصر ونشروا نورها في العالم العربي والمشرق الإسلامي عامة. جلهم أنصفهم التاريخ، ومدحهم من أتى بعدهم بكثير مما يستأهلونه، حتى غلا بعضهم في ذلك وجاوز حد الواقع.

لكن هناك قلة قليلة من عظماء مصر لم ينصفهم التاريخ، بل جنى عليهم من أتى بعدهم، خصوصا من المصريين أنفسهم!

في نظري لم يظلم عظيم مصري، حيا وميتا، كم ظلم الرئيس المقتول غدرا وغيلة، أنور السادات. لطخت صورة السادات كثيرا من قبل الدعاية القومية والأصولية، وضاعف ذلك الشيطنة الخمينية له، لدرجة تسمية الشارع الذي تقع فيه سفارة مصر في طهران باسم قاتله خالد الإسلامبولي.

السادات كان يمكن أن يكون محمد علي باشا الثاني في مصر، فهو رجل من قماشة العظيم الآخر، التونسي الحبيب بورقيبة.. رجال تقدموا على الشارع ولم ينغمسوا في ترديد هتافاته الانفعالية العمياء.. رجال، رغم كل عيوبهم، أدركوا معنى المسؤولية والقيادة.. كما أنهم رجال خرجوا من عجينة الشارع، لا من رخام القصور.

تذكرت شخصية السادات عطفا على ما نراه اليوم في مصر، وكم هو مهم وجود شخص، الآن، يتمتع بمثل ما كان السادات يتمتع به، والذي حمى مصر من ويلات وكوارث كانت ستحل بها لو تحكم بها من كانوا، وما زالوا، يشتمون السادات، وكل من يفكر مثله.

تذكرته – أيضا - وأنا أقرأ حوارا نشر قبيل ساعات من وفاة آخر سفير مصري في إسرائيل، وأحد ضباط المخابرات المصرية الذين شهدوا لحظات الحرب والسلم مع السادات، الراحل محمد بسيوني، الذي أنصح الجميع بقراءة حواره المثير مع الزميلة مجلة «المجلة» في عددها الأخير، وفيه، ضمن ملاحظاته على «الثورات العربية»، إشارته للعقل الاستراتيجي الكبير الذي كان السادات يتمتع به، وأنه دوما كان يفاجئهم بحكمته أو على حد وصفه «هو رجل حكيم كان دوما ينظر أمامه».

شهادة السفير بسيوني شهادة رجل عركته التجارب، قالها على شفير اليوم الأخير من حياته، عن زعيم ذهبت روحه ضحية للمغامرة بخسران هتاف الشارع من أجل مصلحة هذا الشارع نفسه!

السادات كان من أكثر من أحب مصر، لكن بعقله وعاطفته، لا بأحدهما فقط.

[email protected]