«الدولة الدينية» مناطحة وهمية لـ«ثور خرافي»!!

TT

في الدنيا 700 عجيبة، لا سبع عجائب فحسب. ففي دنيانا هذه أناس ينقصهم أن يقولوا: إن عقيدة «لا إله إلا الله» صيغت من خلال مناقشات بين «كهنة» الإسلام الذين اجتمعوا في سقيفة بني ساعدة إثر خلافات عاصفة حول حقيقة «الإله».. يقولون هذا قياسا على مؤتمر «نيقية» الذي تقرر فيه - عام 325م - العقيدة المسيحية. فالإسلام عند هؤلاء مجرد «محاكاة» للمسيحية في كل شيء، أو يجب أن يكون كذلك..

إن هذا المثل المتخيّل «من بعيد»، نجده ماثلا في الواقع الفكري والسياسي الراهن. فثمة من يتصور «حكومة دينية» في الإسلام هي نظير «الحكومة الدينية الكنسية» في أوروبا الغابرة. وبناء على هذا التصور يخوضون مناطحة وهمية ضد «ثور خرافي»!. وإلا ففي أي نص إسلامي - من الكتاب والسنة - عثروا على مشروعية «كهنوت ديني مقدس»؟. هل عثروا عليه في الآية (31) من سورة التوبة: «اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله». بيد أن هذه الآية تنقض الكهنوت، وتجتثه من جذوره، إذ تقرر - بحسم شديد - أنه لا يجوز - قط - رفع العلماء (رجال الدين) فوق قدرهم، ولا منحهم عصمة ليست لهم، ولا اعتبار ما يقولون تشريعا صادرا عن الله ذاته - تقدس في علاه - لا تصح مراجعته ولا نقده.

إن «الحكومة الدينية» - بمفهومها الكنسي الكهنوتي الأوروبي - لا وجود لها في مصادرنا الدينية، ولا في تاريخنا السياسي والحضاري.. نعم ثار جدل عقيم حول هذه القضية في العالم الإسلامي، ولكنه جدل أشبه بتصور وجود «ثور خرافي»، وأشبه بأن الذين تصوروا هذا الثور، توهموا قرونا وهمية في رؤوسهم فذهبوا يناطحون هذا الثور.. ومن العجائب الفكرية والسياسية أن اللاحقين لا يستفيدون من تجارب السابقين في هذه المعركة.

من أبرز المفكرين الذين شبهوا «الحكم الإسلامي» بـ«الحكومة الدينية في أوروبا»، واستخدم في هذا التشبيه قدراته ومواهبه الفكرية الفذة الهائلة، ومعرفته الدينية السياسية الواسعة، وشجاعته الأدبية الفائقة، وأدواته اللغوية الممتازة الآسرة.. من أبرز هؤلاء المفكرين الأستاذ خالد محمد خالد، رحمه الله تعالى وأسكنه فسيح جناته. ففي نصيف القرن العشرين ألف كتابا صاعقا هو «من هنا نبدأ»، وعقد فيه فصلا كاملا عن «قومية الحكم» هاجم فيه الحكم في الإسلام، بل نفاه وطفق يحصي معايبه - كما تصورها بادئ ذي بدء - ويسقط عليه مفهوم الحكومة الدينية. ومن المعروف عن هذا المفكر الكبير والصديق العزيز أنه كان عميق الإخلاص، صادق الباعث والقصد حتى في خطئه.

ومن ثم فإن من العقل والنبل والرشد الاستفادة من تجربته هذه، وهي تجربة يصورها - بدقة وأناقة - في كتابه «الدولة في الإسلام» الذي صدرت الطبعة الأولى منه عام 1981، أي بعد كتابه «من هنا نبدأ» بثلاثين عاما تقريبا.

لنجلس إليه ونستمع له وهو يقول: «في عام 1950 ظهر أول كتاب لي وكان عنوانه (من هنا.. نبدأ). وكان ينتظم أربعة فصول، كان ثالثها بعنوان (قومية الحكم). وفي هذا الفصل ذهبت أقرر أن الإسلام دين لا دولة، وأنه ليس في حاجة إلى أن يكون دولة. وقلت: إن الدين حين يتحول إلى (حكومة)، فإن هذه الحكومة الدينية تتحول إلى عبء لا يطاق، وذهبت أعدد ما سميته (غرائز الحكومة الدينية)، وزعمت لنفسي القدرة على إقامة البراهين على أنها - أعني الحكومة الدينية - في تسع وتسعين من حالاتها جحيم وفوضى، وأنها إحدى المؤسسات التاريخية التي استنفدت أغراضها، ولم يعد لها في التاريخ دور تؤديه.. وكان خطئي أنني عممت الحديث حتى شمل الحكومة الإسلامية. وقلت: إن غرائز الحكومة الدينية تجعلها بعيدة عن الدين كل البعد ولخصت هذه الغرائز في الغموض المطلق، إذ هي تعتمد في قيامها على سلطة غامضة.. ومن غرائزها أنها لا تثق بالذكاء الإنساني، ولا تأنس به.. ومن غرائزها (الغرور المقدس) والجمود.. والقسوة والتوحش.. وهكذا أخذت كل خصائص ونقائص الحكم الأوتوقراطي والديكتاتوري وخلعته على ما سميته (الحكومة الدينية).. ولم أكن يومئذ أخدع نفسي، ولا أزيف اقتناعي، فليس ذلك - والحمد لله - من طبيعتي. إنما كنت مقتنعا بما أكتب، مؤمنا بصوابه.. ترى ماذا كانت المقدمات التي أوصلتني إلى موقفي القديم من (الحكومة الدينية)؟.. أود أولا أن أشير إلى أن تسمية (الحكومة الإسلامية) بالحكومة الدينية فيها تجن وخطأ. فعبارة (الحكومة الدينية) لها مدلول تاريخي يتمثل في كيان كهنوتي قام فعلا، وطال مكثه، وكان الدين المسيحي يستغل أبشع استغلال في دعمه، وفي إخضاع الناس له.. أما العامل الثاني الذي شكل تفكيري وموقفي من الحكومة الدينية فقد كان عاملا موقوتا بزمانه، ولكني جعلت منه قاعدة عامة بنيت عليها حكمي القديم، وذلك أن (الإخوان المسلمين) كانوا قد بلغوا خلال الأربعينات من الكثرة والقوة والنجاح مبلغا يكاد يكون منقطع النظير.. وذات يوم - والجماعة في أوج مجدها الباهر - لا ندري هل انبثق منها أو تسلل إليها ما سمي يومئذ بالتنظيم السري، وارتكب هذا الجهاز جرائم منكرة، وتوسل بالاغتيالات لفرض الدعوة.. وكنت من الذين أقض مضجعهم هذه الأفعال والنذر وقلت لنفسي: إذا كان هذا مسلك المتدينين وهم بعيدون عن الحكم، فكيف يكون مسلكهم حين يحكمون؟.. كان خطئي الأول: مضاهاتي الحكومات الدينية الكنسية بالإسلام. وكان خطئي الثاني: تعميم ما اقترفه الجهاز السري باسم الإسلام».. وعندما تحرر مفكرنا الكبير من هذا الخلط المنهجي: انتصر للإسلام وقيمه في كتابه الجديد «الدولة في الإسلام».. ومن المفارقات الحادة أن كتابه «من هنا نبدأ»، حظي بشهرة منقطعة النظير، على حين باء كتابه «الدولة في الإسلام» بتعتيم، اغتال عنوانه وموضوعه!

وبسبب الهروب من الحكومة الدينية في أوروبا راجت مصطلحات بديلة مثل: الدولة القومية.. والدولة العلمانية. ولقد استدعيت هذه المصطلحات إلى الساحة الإسلامية في هذه الظروف، مع ضميمة «الدولة المدنية».. فماذا هنالك؟