المصالح القومية قبل الشعارات الآيديولوجية

TT

كتاب الفلسفة الصينية يبدأ بنصيحة للدارسين «لمزيد من المعرفة انظر إلى الغاية التي يشير إليها الفيلسوف بدلا من التحديق في إصبعه».

تعليقات في المواقع العربية التي أعادت نشر مقالي المنشور في «الشرق الأوسط» الأسبوع الماضي بدت محدقة في الإصبع بدلا من التوجه لغاية المقال ألا وهي تسليط الضوء على نوايا قوى تسعى للسيطرة على الثورات، خاصة «اللوتس» المصرية، بإحياء آيديولوجية تسييس العروبة لتوحيد الأعضاء في الجامعة العربية حول شعار إلغاء معاهدات السلام وافتعال مبررات لإعادة مصر لاستراتيجية الديكتاتورية الناصرية.

فمشروع الناصريين والعروبيين صبيحة الثورة هو «رسكلة» (recycling / إعادة تدوير) «البعث» بإخراجه من مزبلة التاريخ ليرتدي بذلة تفصيل الكولونيل ناصر، فتتحمل مصر تضحيات الحرب مع إسرائيل (بينما يخوضها العروبيون على شاشات «الجزيرة»). ولخلق مناخ يتيح لـ«الإخوان» اغتصاب السلطة برعاية رئيس عروبي الشعارات، يلهب الناصريون الصدور بالعداء لإسرائيل بديلا عن الديمقراطية وعن توعيتهم بأولويات الأمن القومي المصري.

وبدلا من الوصول لغاية المقال توقف أكثر التعليقات عند الإصبع (ووظيفته الإشارة للغاية)، مدافعة بشعارات عاطفية عما سمته «عروبة مصر»، ولم تكن بجوهر الموضوع. فما يقصده العروبيون والناصريون و«الإخوان» بـ«دور مصر العربي» هو افتعال صراع مع إسرائيل ينسي ما بقي من ذاكرة حياة نيابية ديمقراطية في ما قبل 1952، ويلهي عن المصالح الحقيقية لمصر.

حماية استمرار تدفق مياه النيل أهم أولويات الأمن القومي المصري على الإطلاق، وتليها تهديدات الإرهاب (من حركات ومنظمات تحرك إيران خيوطها في غزة ولبنان ومدخل البحر الأحمر في الصومال واليمن)، ثم فقدان آلاف المصريين في ليبيا وظائفهم (ومدخراتهم واستثماراتهم وممتلكاتهم وتحويلاتهم النقدية التي تؤثر على السوقين المالية والاستهلاكية المصريتين).

الصحف القومية المصرية (التي يدعم دافع الضرائب المصري جيشا من الموظفين فيها معرفة أغلبهم بمهنة الصحافة دون مستوى صبي مطبعة) معقل للناصريين بفضل وزير بروباغندا الديكتاتورية الناصرية.

أثناء زيارة ميليس زيناوي، رئيس وزراء إثيوبيا، للقاهرة بحثت في مواقع الصحف القومية المصرية عن الكلمات: «النيل»، و«إثيوبيا» و«فلسطين - إسرائيل».

النيل وإثيوبيا، التي تبني سدودا على النيل الأزرق مهددة تدفق 84 في المائة من مياه الفيضان، كان نصيبهما بوصات قليلة في «الأهرام»، وعمودي رأي «يمسحان الجوخ» - حسب التعبير المصري - لزيناوي، ويدعوان لمزيد من الاستثمارات المصرية في إثيوبيا.

وغابت عن الصحف التي يدعمها دافع الضرائب المصري أخبار أو متابعات لمصير آلاف المصريين الذين فروا من ليبيا، وما حدث لمستحقاتهم وممتلكاتهم.

فلسطين وإسرائيل أخبار رئيسية ملأت صفحات ليس فيها ربط واحد بمصالح القارئ المصري، أغلبها معلومات خاطئة ومعادية لإسرائيل، ولا إشارة إلى مخالفة رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو ما اعتدناه من تشدده «ليجر ناعما» - عقب الهجوم على السفارة الإسرائيلية في القاهرة - مع الجيران المصريين، مؤكدا حرصه على العلاقات الطيبة والتعاون لرخاء الشعبين والتمسك بمعاهدة السلام.

المعاهدة وقعها عام 1979 الرئيس الراحل أنور السادات (الوحيد من ضباط انقلاب 1952 الذي كان له تاريخ طويل من الكفاح الوطني وسجنه الإنجليز، وهرب ليقاتل مع رفيق سلاحه المرحوم المهندس حسن عزت ضد القواعد العسكرية في منطقة القنال).

السلام وفر لمصر، في 32 عاما، أكثر من 26 مليار دولار من ميزانية الإنفاق الحربي، إلى جانب 40 مليارا دعما أميركيا، وارتفاع حركة السياحة ورواج التجارة أكسبا الخزانة المصرية رقما مماثلا (أنفق على الإنشاءات والبناء وفرص العمل)، بتطبيع العالم الحر العلاقات مع مصر بعد عزلة ربع قرن بسبب السياسة العدوانية للكولونيل ناصر.

وبعد تمزيق أمة وادي النيل بفصل مصر عن السودان انشغل عبد الناصر بزعامة العروبة وحروبها مضعفا نفوذ مصر أفريقيا وصرفها عن حماية النيل.

وبينما لا يوجد تهديد حقيقي لمصر من إسرائيل (سيعلق العروبيون مؤكدين تآمر الصهيونية بلا تقديم دليل واحد)، يدق الناصريون طبول الحرب في الصحافة القومية بدلا من التنبيه لخطر تزعم إثيوبيا مجموعة بلدان تهدد تدفق ماء النيل. كان السادات - الذي قدم شقيقه حياته في حرب 1973 - قال عام 1978 إن الجيش المصري لن يتورط في حروب تشبع أطماع عروبيين لا يضحون بأبنائهم؛ فمهمة الجيش الدفاع عن المصالح المصرية، مشيرا من شرفة الـ«أوتيل» في أسوان إلى النيل قائلا «اللي يمس قطرة واحدة منه هاقطع إيده».

إثيوبيا دفعت ببلدان أعالي النيل في 2010 لتوقيع اتفاقية، بغياب مصر والسودان، انتهاكا لاتفاقية 1929 التي تلزم بلدان الحوض بعدم مس المياه دون إذن مسؤول مصري (كمهندس الري المصري المقيم منذ 1949 ليدير عيون سد أوين في أوغندا).

أخطأ نظام مبارك بعدم شكوى البلدان الموقعة للمحكمة الدولية ليدرج نزاعا في الأمم المتحدة تحت بند تهديد أربعة بلدان أفريقية لأمن مصر المائي.

القانون الدولي يقدم «customary use» - حق الاستخدام التاريخي للمياه - على أي عامل آخر في توزيع الحصص في الأنهار والبحيرات العابرة للحدود (وليراجع القارئ كتابي «Water Wars» / «حروب المياه»، الصادر بالإنجليزية عام 1993 عن دار «جولانص» في لندن). مصر، تاريخيا، تستخدم 78 في المائة من المياه (55 مليار متر مكعب) في الزراعة منذ 7000 سنة، بينما لا تحتاج بقية دول الحوض (باستثناء السودان ونصيبها 18.5 مليون تستخدم أقل من نصفها) لأكثر من 5 في المائة من مياه النيل، حيث تروي زراعاتها أمطار استوائية غزيرة.

هرع زيناوي إلى القاهرة ليوقع اتفاقية قبل ديسمبر (كانون الأول) آخر موعد لتمويل مشاريعه من الـ150 مليون دولار الخاصة بصندوق حوض النيل (14 مليون دولار أفريقية، و130 مليونا من بلدان الغرب والبنك الدولي، وباق 6 ملايين لم تدفع بعد). اتفاقية القاهرة منحت إثيوبيا مكاسب لا تحلم بها، وتنازلات مصرية تدعو للرثاء.

ورغم إصابتهم بإسهال مزمن في التصريحات المتشددة العدائية لإسرائيل، نسي المعلقون المصريون حكمة السادات (وقبله الملكة حتشبسوت التي أرسلت الأسطول قبل 3400 سنة لإخضاع القرن الأفريقي والحبشة للسيادة المصرية حماية للنيل)، وتعالت أصواتهم بإخراج الخيار العسكري من معادلة المفاوضات حول النيل!

ولأن المياه أمن قومي، فالقانون الدولي - خاصة المادة 52 - يعطي مصر حق التدخل العسكري لإيقاف أي عمل قد يؤثر على تدفق المياه خاصة أن اتفاقية 1929 تعطي مصر السيادة الكاملة على حوض النهر، بفضل حكمة الزعيم البريطاني الراحل ونستون تشرشل الذي أثبت التاريخ أنه كان أكثر حرصا على المصالح المصرية من مجلس الوزراء المصري (غير المنتخب) في عام 2011!