سوريا: خطر الطائفية وهواجس الأقلية

TT

لم يزل نظام الأسد يعتمد رواية واحدةً لتوصيف ما يجري في سوريا، وهي رواية الجماعات المسلحة، التي لا يصدّقه فيها أحدٌ، بل إنّ كلّ الأخبار والصور ومقاطع الفيديو الآتية من هناك تؤكد أن الناس لا تخاف من أي جماعاتٍ مسلحةٍ بل لا تخاف إلا من النظام وجيشه وقواته الأمنية وشبيحته، فهم من يقتل ويعذّب ويغتال، وهم من يلاحق أسر المعارضين ويمارس نفس الطريقة العنيفة التي تكتنزها ذاكرته الحزبية البعثية والعائلية.

اعتماد الأسد ما زال على ولاء الجيش والقوّات الأمنية والشبيحة له، وهو بعد استراتيجية العنف المسلّح في مواجهة الاحتجاجات بدأ يلعب لعبةً أكثر خطورةً، وهي اللعب على الورقة الطائفية، والطائفية هي الفتنة دون شكٍ، والفتنة نائمةٌ لعن الله من أيقظها.

في بلدٍ متعددٍ الأديان والطوائف والإثنيات كسوريا يصبح اللعب بالطائفية لعبا بالنار يهدّد استقرار البلاد ويجني على مستقبلها، وبقدر ما يتجافى المحتجّون عن الولوج في تلك النار بقدر ما يسعى النظام لجرّ الجميع إليها، وهو ما يعبّر عن وصول النظام لخيار شمشون فيحرق البلد بمن فيه ليحافظ على نظامه حتى آخر قطرة دمٍ وآخر فتنةٍ.

حين سعى الأسد الأبّ لدمج الأقلية العلوية التي جاء منها في المحيط المسلم من حولها سعيا لتجنيب الطائفة أي إحنٍ أو ذحولٍ فقد كان ينظر بعين زعيم الطائفة وعين القائد السياسي، وقد استصدر لهذا فتوى من السيد موسى الصدر تؤكد أن الطائفة العلوية فرعٌ من المذهب الجعفري الاثنا عشري، وفي جنازة والدته قال للسيد محمد مهدي شمس الدين: «إنني أعلنت من قبل أنني وعائلتي مسلم سني شافعي وسننتظر مفتي الشافعية البوطي ليصلي عليها». وقد نقل لي هذه المعلومة الدكتور رضوان السيد عن السيد مهدي شمس الدين مباشرةً، وقد أشار لها آخرون.

وبعيدا عن الصحة التاريخية لتوصيف المذهب العلوي في الفتوى، وبعيدا عن أهداف الأسد السياسية في حديثه عن نفسه وعائلته، فإنّ الأسد الابن يعمل اليوم على نقض غزل والده أنكاثا، فهو بعدما ورّط عائلته ونظامه وجيشه في حربٍ ضروسٍ ضدّ الشعب، يسعى جهده لتوريط كامل طائفته في حربٍ لا ناقة لهم فيها ولا جمل، ولكنّه حبّ السلطة حين يعمي ويصمّ.

لا أدري ما نوع العدسات التي يضعها الرئيس طبيب العيون على عينيه حتى يرى المشهد كما يريد لا كما هو، ولكنني أدري أن هذا لا يغير مما يجري على الأرض شيئا لا لدى الشعب السوري ولا لدى الدول الإقليمية ولا العالم أجمع.

حين يتكئ نظام الأسد على محاولة استخدام الإرث الأقلوي تهديدا للداخل والخارج فهو يتكئ على مراهنةٍ خطيرةٍ ولكنّها قابلة للاشتعال، فلدى الأقليّات الدينية والإثنية والطائفية في كامل المنطقة العربية مخاوف موروثة ودفينة تجاه أوضاعها وأمانها، ولديها خشيةٌ حقيقيةٌ من المجهول حين تتغير الأوضاع السياسية في البلدان التي تنتمي إليها، والأسد يعلم تلك المخاوف وهذه الخشية ويسعى لتجنيدها لصالحه، ويخوّف بها دول المنطقة والعالم.

ما لا يبدو أن الأسد يدركه هو أنّه بسياساته الدموية المستمرة منذ أشهرٍ، وبمحاولاته الجديدة في إيقاظ الطائفية، واللعب على وتر مخاوف الأقليّات، يجعل من نفسه أسوأ الخيارات، وأقبح السيناريوهات لبلده ومستقبلها. ولئن كان ثمة خشيةٌ من سيطرة تياراتٍ أصولية على سوريا، وخوفٌ من انزلاق الأوضاع لإضرابات عنيفةٍ ذات أبعادٍ طائفية مسلحةٍ، فإنّ الأسد قد أثبت أنه أسوأ منها جميعا. وحين يتبع رئيسٌ ما سياساتٍ داخليةٍ وخارجية تجعل منه أسوأ الخيارات فإنّه لا يمارس إلا سياسة الانتحار.

لست أحب قصة التنبؤ بالمستقبل التي أشار لها البعض تجاه ما يجري في العالم العربي، إن في روايات أو مقالات أو نحوها، ولكنني وفي سياق الحديث عن الأقليات والطائفية وقفت على نصٍ مختلفٍ في كتاب «الفرق الهامشية في الإسلام» تمّ تقديمه كرسالةٍ علميةٍ عام 1997 للباحث التونسي المنصف بن عبد الجليل، قال فيه: «وقد توقّعنا أفول العلويين، والفرقة النصيرية لشدّة جرأتهم على الإنسان قيمةً» ص23.

وحتى نضع حديث الباحث في سياقه فقد كان يتحدث عن استخدام السلاح والبطش واضطهاد الناس، أي على مستوى السياسة لا مستوى العقائد، واستخدام السلاح والبطش واضطهاد الناس والظلم والتعسف كلّها أمورٌ مرفوضةٌ من حيث المبدأ، ومجرّمةٌ دينيا وإنسانيا، ولا فرق فيمن يستخدمها إن كان ينتمي للأغلبية أم للأقلية، فالجريمة واحدةٌ أيا كان مرتكبها.

لم تزل سياسات الدول الغربية وعلى رأسها الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، وكذلك سياسات تركيا والجامعة العربية تجاه سوريا تحبو حيث يجدر بها العدو، وتكتفي بتصعيد بطيء في التصريحات وتقدمٍ أبطأ في العقوبات، والنظام مستمرٌ في القتل لا يسمع نصيحة صديقٍ كإيران، ولا حديث مشفق كالسعودية، ولا زجر زاجرٍ كعقوبات الغرب، واستمرار الأوضاع هناك على هذه الشاكلة لا يشكل خطرا على سوريا وحدها بل ستتضرر منه غالب دول المنطقة خاصةً إن نجح النظام في تحريك الطائفية.

إنّ تناقضات الأكثرية والأقلية موجودةٌ على طول التاريخ وامتداد الجغرافيا، وفي منطقتنا لم يزل التعامل مع هذه الإشكالية يخضع لمفاهيم قديمةٍ تتقدم فيها العقيدة على المواطنة، والصراع على التعايش، والتوجّس على الانسجام، ولئن استطاع الغرب في سياقه الحضاري الطويل أن يخترع المعادلة الديمقراطية الليبرالية التي لا تمنح الأكثرية حقّ الحكم إلا بقدر ما تمنح الأقليات كافة أنواع الحقوق والحماية، فإننا في سياقنا الحضاري – للأسف - لم نصل لتلك الدرجة من النضج بعد.

إنّ استحضار ما تختزنه ذاكرة الأقليات العربية من تاريخٍ وأحداثٍ وظلمٍ واضطهادٍ نالها في القديم، أو عانت منه حقبةً من الدهر، حيث إنّها تمتلك ذاكرةً مختلفةً وتروي تاريخا مغايرا، إن على مستوى الدين أو على مستوى الطائفة أو على مستوى العرق، يدفع للشعور بحجم خطورة استراتيجية الأسد الجديدة.

* كاتب سعودي